د. عبد الحميد أبو سليمان رئيس المعهد العالمي للفكر الإسـلامي بـواشنطن يتحدث عـن :البعد الغائب في المشروع الإصلاحي الاسلامي


قدم الأستاذ عبد الحميد أبو سليمان رئيس المعهد العالمي للفكر الاسلامي محاضرة تحت عنوان : “البعد الغائب في مشروع إصلاح الأمة” نظمتها جمعية العمل الاجتماعي والثقافي فرع فاس بمقر رابطة علماء المغرب  بفاس، ولأهميتها ننشرها كاملة

الإسلام ليس قضية تاريخية

هناك نقطة مهمة أيضا، أرى  أن إخواننا المفكرين ومن يتهجم على الإسلام يقف عنها في حيرة، وهي أن الاسلام طبق تطبيقا كاملا في فترة قصيرة، وهي فترة العهد النبوي، وربما جزء من العهد الراشد، بعد ذلك لف الأمة كثير من المآسي، والمشاكل والفرق والخلافات التي تعلمونها، فهذا يثير العجب، كيف أن الاسلام، هذا الذي تتطلعون إليه وتريدون أن تطبقوه وتدعون إليه لم يطبق إلا في فترة وجيزة؟

بالنسبة لي هذا لا غرابة فيه ويجب أن يكون كذلك، أنتم تعلمون أن الفلاسفة كتبوا كتبا كثيرة في قواعد الاصلاح، كالمدينة الفاضلة وجمهورية أفلاطون إلى آخره، وكلها ينظر إليها على أنها أفكار خيالية، غير قابلة للتطبيق كما كتبها كتابها، لو أن القرآن أنزل كتابا مثل ذلك لقيل عنه مثل ذلك، كلام مثالي لا يمكن تطبيقه، فكان الرسول   والرسالة هما الحجة البالغة على الإنسانية أنه يمكن تطبيقه، فطبق التطبيق السليم الكامل. بعد ذلك، الأجيال والأفراد يأخذون منه بقدر ما يطيقون. لو كان إنتاجا إنسانيا حضاريا لحده الزمان والمكان، يطول أمره إلى أن ينتهي ويصبح قضية تاريخية. الإسلام ليس قضية تاريخية، الإسلام لكل زمان ومكا ن، يأخذ منه كل إنسان وكل جيل بقدر طاقته، فالأصل فيه أنه النموذج لقيام الحجة على الإنسان. في كل زمان ومكان وليس أنه تطبيقات زمانية ومكانية تخص زمانا ومكانا. فهذه إشكالية يجب أن تزول من أذهاننا.

وبالضبط جيل الأصحاب والأتباع الذين يشكلون أفضل الناس وأكثر الناس تمثلا للقيم الاسلامية لوجودهم في موقع قريب من عهد الرسالة فيكونون أفضل بهذا القدر لا أكثر ولا أقل، وبالتالي لا غرابة فيما حدث في عهد الصحابة، وفي عهد التابعين، فهم بشر، أخذوا من الإسلام ما يطيقون، أما الرسالة المنزهة المعصومة فهي لرسول الله   وتطبيقاته. ولذلك، ماذا حدث؟ كلنا يعلم أنه بقيام الخلافة الأموية،  الخلافة  أصبحت ملكا عضوضا. أي أن النظام السياسي انحرف، وعجيب ألا ندرك أن النظام السياسي وحده لا ينحرف. إذا انحرف النظام السياسي فمعناه النظام الاجتماعي والنظام الاقتصادي. كلها سيصيبها الانحراف.

كيف سقطت الخلافة الراشدة؟ قضية بسيطة، جيش الرسول   وقاعدته الأساسية هم الأصحاب الذين رشدهم وقومهم وكانوا أصحاب رسالة، بوفاة الرسول  وبتحديات الروم والفرس الدولتين العظميين في ذلك الزمان، كان لا بد من رد الفعل والمقاومة، فجند الأعراب، في جيش الفتح، وبعد أمد كثير من الأصحاب مات، أو أصبح شيخا وضعفت قيادته. وأنتم تعلمون أن بداية نهاية الخلافة الراشدة كانت على عهد سيدنا عثمان، وكان في الثمانين من عمره. أي أن  القاعدة السياسية للحكم تغيرت، الأعراب ليسوا أصحاب، فكان لا بد أن يسقطوا الخلافة الراشدة لأن عقليتهم قبلية، ثم مضت حوالي مائة عام من الصراع بين مدرسة المدينة وبين القبلية العربية لبني أمية، وانتهى الأمر بهزيمة مدرسة المدينة، وعزل العلماء، أو تكونت طبقة العلماء، أو قبل ذلك الحسن والحسين وابن الزبير والنفس الزكية كانوا قادة سياسيين واجتماعيين، ولكن لما هزم هذا الفريق في المعركة نشأ المدرسيون, وهم الناس المثقفون وعزلوا في المساجد وأبعدوا عن الحياة العامة.

عزة العلماء أضعفت فكرهم

نلاحظ أنه في بداية الأمر كان هناك فكر اجتهادي، لأنهم ما زالوا قريبي عهد بهذا الصراع، إلا أن النظام كان لهم بالمرصاد، ونعلم أن الإمام مالك] مثلا  ضرب حتى  شلت يده بسبب فتوى  طلاق المكره، وهي لها دلالة سياسية، أبو حنيفة يعلم طبيعة النظام، وأنه يريد أن يستغله فأبى  أن يتولى  القضاء لبني العباس، حتى مات في السجن، والشافعي بتأييده لحركة زيد بن علي في اليمن، أتي به مكبلا في الحديد إلى بغداد، ليهرب إلى القاهرة، بعيدا عن النظام السياسي. وما جرى لابن حنبل نعلمه. ولكن نلاحظ على سبيل المثال أن ما يروى عن الإمام أبي حنيفة]، أن ما استدل به في مذهبه من الأحاديث النبوية حوالي سبعة عشر ـ موطأ الامام مالك كتاب صغير في الحديث، بينما نجد مع مضي الوقت، الامام ابن حنبل ] يجمع في مسنده خمسين ألف حديث، كثير منها ضعيف، بل وبعض منها موضوع. أي أننا بدأنا نكثر من طلب النص، والسبب أن عزلة العلماء أدت إلى ضعف فكرهم لينتهي فيما بعد إلى التقليد المطلق وما يعرف بحركة غلق باب الاجتهاد. ونجد أن هنا استخدام قهري للقداسة، طلب النص والمبالغة فيه, هو دليل ضعف، أكثر منه دليل قدرة علمية، والنتيجة أن الفكر ضعف، وانفصم عن الحياة الاجتماعية، وفي نفس الوقت السياسة ضعفت والقيادة الاجتماعية ضعفت، لأنه ليس لديها قاعدة فكرية.

نعيش ضعف الفكر ولا نعلم

في الواقع أريد أن أقف هنا وقفة سريعة، كيف نعيش ضعف هذا الفكر ونحن لا نعلم؟ من القضايا التي تحير العقل في أمر هذه الأمة، المفروض أن  خير أمة أخرجت للناس, ولكن نعلم أنها، مؤسساتها العامة منهارة، ممزقة، في صراع حتى أنهم سألوا أعرابيا، أتحب فلانا؟ قال نعم، فهو ليس بجار ولا قريب. فما نلحظه من هذا التمزق كيف نفسره ؟ هل الاسلام يأمرنا بهذا التمزق والصراع؟ بالتأكيد لا. هل المصلحة والعقل تأمرنا بهذا التمزق والصراع؟ بالتأكيد لا، فإذا لا  الدين يأمر ولا العقل يأمر، كيف يحدث هذا؟ لنأخذ الصين مثلا، الصينالآن تعدادها مثل تعداد العالم الاسلامي وهي أيضا شعوب ولغات، الصينيون يكتبون لغة واحدة، لكنهم يتكلمون لغات متعددة، هي لغة قريبة إلى الهيروغليفية لأنها رسوم. الصين مربها الأباطرة والاقطاعيون والاستعمار وكل ما مر بالعالم الاسلامي، والصين واحدة، ونزاعها مع تايوان بسبب الأمريكان.

الهند هي أيضا تعدادها يقارب تعداد العالم الاسلامي، وهي أيضا شعوب وعرقيات، وفيها أكثر من حوالي ثلاثمائة لغة، وفي الجنوب سود كالفحم وفي الشمال بيض كالثلج، وأديان، آلهة في الجنوب تعبد، تعتبر شياطين في الشمال، وشياطين في الشمال تعتبر آلهة في الجنوب والهند واحدة، وكل المحللين السياسيين يقولون إن السبب الحقيقي للحروب الهندية الباكستانية هو أن الهندوك لم يقبلوا بانفصال شبر من أرض الهند. أما باكستان التي قامت باسم الاسلام، فالعيد الوطني لبنغلاديش هو يوم الانفصال.

تعالوا إلى أوربا، وهي أيضا شعوبولغات وأصول وأديان، بروستانية وكاثوليكية وأرثدوكسية، وبينهم حروب ودماء وحروب عالمية، الحس العام لديهم لما أدركوا أنهم في حاجة إلى التكاثف والاتحاد فعلوها، وتغلبوا على كل هذه السلبيات، فلماذا نحن لانحذو حذوهم، لماذا نفعل العكس، والحمد لله، حتى أن “الغمة الاسلامية” لم تستطع أن  تنعقد حتى الآن “أقصد القمة” هذا بلغة إخواننا السودانيين يقلبون القاف غينا، فيقولون الغمة بدل القمة.

لديها صعوبات حتى في الانعقاد فكيف هذا؟ قلنا لاالدين يأمر به ولا العقل يأمر به، فأين نجد الجواب؟ في الثقافة، كيف؟ ثقافة الأمة التي تتعلق بشخصيتها ومفاهيمها هو خطاب الفقه الإسلامي الذي  كتبه العلماء وهم في المسجد، ماذا يستطيع الانسان أن يفعل وهو في المسجد؟ يصوم، يصلي، يقرأ القرآن، هذا في اللغة القرآنية يسمى ذكر، سموه عبادات، مع أن كل شيء في حياة المسلم عبادة إذا قصد به وجه الله، وهم بالفعلسموه عبادة لأن هذا كل ما يفعلون، يقضون الحياة كلها في واقعهم، هو انطباع واع وغير واع.

أما الحياة فهي قضية معاملات فردية، سميت معاملات، أي نظرية سلبية تجاه الحياة، نلحظ أن كتاب الفقه ليس فيه الجانب العام، ليس فيه حديث عن الأمة ولا عن العدل ولا عن الشورى ولا عن التكافل ولا عن المؤسسات العامة، وفاقد الشيء لا يعطيه. أمة ينشأ أبناؤها أفرادا للخلاص الذاتي، والهم كله يدور حول قضايا الذكر، أما الجهاد، جهاد النفس، جهاد طلب الرزق، جهاد الدفاع عن الأمة، جهاد الدعوة، هذه أمور ليست في صلب الثقافة، فلا غرابة أن الأمة ليست أمة. يعني كما قلنا لا الدين يأمر و لاالعقل يأمر ومع ذلك يحدث.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>