قضايا دعوية: إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها: 9- الهجرة والمهجر 2/2


فالهجرة بمعناها الشامل عملية تكيف نفسي وحسي مع حوادث الخلق المستمر، وهي حركة تجديد مستمر، ترتكز على انتقاء العناصر الصالحة من كل جيل من البشرية كلها، ثم إعدادها لما يناسب الطور الجديد، وحمل رسالة الاسلام، واستمرار الترقي البشري.

ومن المحزن أن لا يبرز “فقه وفقهاء للجنسية والمواطنة” القائمة على مفهوم الهجرة هذا، في الوقت الذي نشاهد أثر قوانين الهجرةـ التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية ـ في تجميع العناصر ذات الكفاءات العالية من أقطار الأرض كلها، ثم إطلاق قدراتها وإراداتها لما فيه قوة الولايات المتحدة، واحتلالها مكان الصدارة في العالم كله.

ومن الموضوعية أن نقول : إنه في الوقت الذي يغيب العقل الإسلامي المعاصر عن شهود ـ العلاقة بين استمرارية الخلق، والهجرة، وتجدد عاقبة الأمم ـ فإن الفكر الغربي المعاصر قد أحس بهذه الحقيقة، ونظم حياته طبقا لها، ولكن العلاقة السلبية التي قامت بين المفكرين وبين الكنيسة جعلتهم ـ على  المستوى العقائدي ـ يتنكرون لفكرة الخلق، ويستبدلونها بفكرة “النشوء والارتقاء والتطور” أي الاعتقاد بأن الكون ينشأ ويترقي ويتطور من نفسه، دون اعتبار لقوة الله المسيرة للنشأة والترقي والتطور. وهكذا ظهر عند الغربيين ما يسمى بنظرية التطورEvelution ونظرية الخلق Creationism

ولكن من الإنصاف أن نقول : إن العقل الإسلامي في الماضي، لم يكن غائبا دائما عن أهمية الهجرة واستمراريتها. فهذا ابن تيمية يعلق على الآية التي قدمناها كإطار لعناصر الأمة المسلمة، ويذكر أن المؤمنين الذين ذكرتهم الآية صنفان : المهاجرون الذين هاجروا إلى المدينة من بلادهم، والأنصار الذين استقبلوهم. ومن لم يهاجر من الأعراب لهم حكم آخر، وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم. فلكلهذه الأنواع حكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظائرهم. وأضاف أن معنى  قوله تعالى : {والذين أمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} هو إشارة إلى من تبع هذا المنهاج إلى يوم القيامة(1).

ولكن الآبائية التي تستمد جذورها من ثقافة العصبية القبلية، كانت دائما تطلي حرارتها بطلاء إسلامي، فترفض الهجرة والتجدد، وتشن إرهابا فكريا على العقول المجددة، وتغري الحاكمين بأصحابها، فتجهز عليهم، وتحرم الأمة من ثمرات اجتهادهم.

دور التربية في بلورة عنصر الهجرة

لا يستطيع الأفراد الهجرة ـ خاصة الهجرة النفسية ـ وحدهم. بل لا بد من عمل تربوي منظم، تنهض به مؤسسات تربوية متخصصة تحيط بقوانين التغيير الفكري والإرادي والسلوكي، ولابد من توفير العوامل المساعدة على نجاح عملية الهجرة المذكورة، وأبرز هذه العوامل اثنان : الأول : توفر العدد المناسب من التربويين الخبراء بتغيير ما في الأنفس ـ من أفكار ومعتقدات ـ ومساعدتها على التخلص من القيم والاتجاهات والممارسات الخاطئة.

والثاني : توفير البيئة الصالحة لنجاح الهجرة بمظاهرها النفسية والحسية.. والحرية هي التجسيد العملي للبيئة المطلوبة، لأن الهجرة هي حرية التفكير والاختيار.. والذين كانوا يتصفون بحرية التفكير والاختيار من المهاجرين الأوائل، هم الذين قدروا على الهجرة. والذين لم يتصفوا بهذه الحرية، ظلوا يمارسون الحران والرفس، جامدين على ما انحدر إليهم من آبائهم من معتقدات، ونظم، وثقافة، وممارسات، وقيم انتهت بهم إلى الهلاك والبوار.

فالهجرة لا تصل مداها المشار إليه إلا إذا حررت التربية نفوس المتعلمين من داخل، وهيأت التطبيقات والسياسات الإدارية لتسود الحرية حياة الأمة من خارج، ذلك أن الحرية عامل أساسي في تحقيق أمرين : الأول : نمو القدرات العقلية اللازمة للتمييز بين الصواب والخطأ. والثاني : إطلاق الإرادات العازمة المناصرة للحق، المناهضة للباطل.. وحين تختفي الحرية تتعطل القدرات العقلية، وتتقلص الإرادات العازمة، وتتوقف الأمة عن الإبداع، والإنجاز، وتسير في طريق الضعف المفضي إلى الاستضعاف في الدنيا، والعقوبة في الآخرة.

لذلك لا بد للتربية الاسلامية أن تعمل على تحقيق أمرين :

الأول : تدريب -إنسان التربية الإسلامية- على مراجعة الموروثات الثقافية والاجتماعية المنحدرة من كل جيل، وتنمية القدرة على التفكير، واكتشاف الجوانب التي عدا عليها الخطأ أو الإفساد في الفهم والتطبيق، أو تلك التي مضى زمنها، وبطل مفعولها، ثم القدرة على التخلص منها، ومن آثارها، والهجرة من تطبيقاتها التي تسربت إلى مظاهر الثقافة السائدة في القيم، والعادات، والتقاليد، والأخلاق، والفنون والنظم، وشبكة العلاقات الاجتماعية، وغير ذلك.

فالهجرة ـ هنا ـ مظهر من مظاهر التوبة من الثقافة الخاطئة، أو التي بطل مفعولها، وما يتفرع عنها من نظم، وتطبيقات، ومؤسسات، وممارسات، ووظائف خاطئة، أو متخلفة. والرسول  يربط بصراحة بين الهجرة والتوبة فيقول : “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها”(سنن أبي داود).

فالهجرة توبة، والتوبة هجرة، وكلاهما انتقال من الخطأ والجمود والتخلف، وانتقال من البيئات التي ترعى هذه السلبيات الموقفة للارتقاء، الخانقة للعيش، المانعة للحياة.

والثاني : تدريب المتعلمين على “فقه” نموذج ـ المثل الأعلى اللازم لزمنهم، ثم تنشئتهم على استيعاب تفاصيل المثل الأعلى الجديد، وبذلك تُعِدُّهم لزمن غير زمن آبائهم ـ كما يوصي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ـ وتتكون لديهم القدرات والمؤهلات اللازمة للغد الذي سيعبرونه، ولن يصابوا بالمفاجآت والصدمات من تطورات المستقبل، كما يصاب الذين يشير إليهم قــوله تعــالى : {بـــل هــم فــي لبس من خلق جديد}(ق : 15).

———-

1- ابن تيمية : الفتاوى، كتاب التصوف : ج 11 ص 39.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>