مهما اختلف المرء مع الباحث فريد الأنصاري في بعض أفكاره، بل ومنطلقاته المرجعية، وكنا قد سجلنا ذلك في أكثر من مناسبة، لا يملك الباحث المنصف إلا أن يثمن مجهوده الكبير في كتابه “البيان الدعوي، وظاهرة التضخم السياسي” وأن يشيد بشجاعته في نقد التنظيم الإسلامي المعاصر، ودق ناقوس الخطر، بصراحة كبيرة، لما أصابه من خلل كبير، ولما ينتظره من تحديات.
أشار الباحث إلى ظهور جيل ثاني من المفكرين الإسلاميين، تجاوز التخريجات الضيقة لمدرسة الرواد المؤسسين كالمودودي وقطب، وقد استفاد الجيل الثاني من التجارب السياسية المحلية التي انخرطت فيها الحركات الإسلامية، وكان أبرز ممثل لهذا الجيل وملهم له هو الدكتور حسن الترابي الذي خاض تجربة في السودان متنوعة وشيقة ومتناقضة، وما زال إلى اليوم. فقد اشتغل الترابي بالتأصيل لمفهوم الديموقراطية باعتبارها عين الشورى الإسلامية. وعلى نهجه سارت جزئيا بعض القيادات الحركية الإسلامية كالغنوشي، وتجربة الإصلاحيين في إيران بزعامة محمد خاتمي، وأحمد الريسوني بالمغرب.
وخص الباحث الفكر السياسي لعبد السلام ياسين بنقد خاص وسجل عليه اضطرابا في تصور الديموقراطية من خلال كتابه (الشورى والديموقراطية). وانتقد اعتبار ياسين المسألة السياسية وخاصة قضية السلطة والحكم، من أصول الدين. وانتقد الباحث اعتماد ياسين على حديث الخلافة بما سبق ذكره؛ ذلك أن الحديث في الفتن التي لا علاقة لها بالتشريع. وانتقد مصطلح القومة الذي يستثمره ياسين كثيرا أو غيره، فهو من نتاج التاريخ السياسي لا النص الشرعي، برغم اعتماد ياسين على قوله تعالى {وإنه لما قام عبد الله يدعو}(الجن: 19). فمفهوم القومة كما تصوره ياسين لاتدل عليه الآية بنظر فريد لاعباريا ولا تبعيا ولا إشاريا ولا إيمائيا ولا اقتضائيا، ولا بالمفهوم الموافق ولا المخالف، ولا بأي طريق من طرق الاستدلال كما عرفت عند علماء أصول الفقه.(ص108) كما وقع عبد السلام ياسين في ما وقع فيه المودودي وقطب والقرضاوي، من خلط في ربط قضية الحكم، بدلالتها على القضاء، بمفهوم السلطة والحكم، ورئاسة الدولة، وبنى على ذلك نظريته في التاريخ والإصلاح أدان بها تاريخ الإسلام كله، ورهن الإصلاح والتجديد بتغيير الحكم، وهو بناء على أسس مفهومية باطلة.(ص111).
وعليه فالفكر التغييري عند الحركات الإسلامية يقوم على أسس باطلة، إذ التبست لديها المفاهيم واختلطت الرؤى، ووظفت آيات في غير سياقاتها. بل تحول الموقف السياسي عند هذه الحركات، وهو محض اجتهاد، وليس أصيلا في الدين، تحول إلى مقياس يصنف على أساسه التدين، مما يعد بنظر الباحث انحرافا خطيرا عن معنى الدين والتدين معا.(ص 112).
ويخلص الباحث إلى خطورة تسييس العمل الإسلامي، وهو ما مسه في جوهره، فأصبحت الدعوة إلى التدين، صلاة أو غيرها، هي في عمقها دعوة قائمة عمليا على التعبئة لموقف سياسي معين، كما أن ذلك الموقف السياسي يصوغ التدين في صورة معينة وأصبح التدين حركة احتجاجية أكثر مما هو حركة تعبدية.(113-114)؛ والاحتجاج يثير الوجدان النفسي السياسي للمنخرطين في الجماعات الإسلامية و يولد فيها نفسيات الصدام السياسي، ويتحول إلى غلو في الدين، أي تضخيم الجانب السياسي تصورا وممارسة، مع استثمار وظيفي للطبيعة الوجدانية للتدين، وإثارة العواطف الوجدانية والشعور الإيماني للمتدينين، مما يؤدي إلى الاشتعال والالتهاب.(ص120)، عندها يتحول مناضل الجماعة الإسلامية إلى نار محرقة مزودة بقوة دفع كبيرة من الخصومة والتوثر ومغلفة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية خاضعة لتأويلات غير سليمة، فيحصل الصراع وينقسم الناس في الدين، شيعا وأحزابا، معتقدين أنهم يتدينون به الله، وهم في الحقيقة إنما يدافعون عن آراء وتأويلات وليس بالضرورة عن الدين.
لقد أصبحت إذن الحركات الإسلامية علة من علل الغلو في الدين، بنظر الباحث الأنصاري، أجج ذلك بنظره، احتلال فلسطين ومظاهر الاستبداد في الوطن الإسلامي، وهيمنة أمريكا وقهرها للشعوب الإسلامية ورد الفعل على الإيديولوجيات الماركسية القديمة والمستفزة للشعور الديني للمسلمين، والتأثر بالفكر الشيعي عموما، وثورة الخميني خصوصا. ومنجزات حزب الله اللبناني. ثم الاستلاب لظاهرة “الجهاد الأفغاني” في مقاومة الروس تحت لافتات دينية ملتهبة وقيادات إسلامية بارزة. ثم تدهور الوضعية الاجتماعية للمسلمين، وقلة معرفتهم بالجوانب العلمية والشرعية في الممارسة الإسلامية؛ ذلك أنه وقعت القطيعة بين شباب الحركات الإسلامية وعلماء الأمة.
وفي الفصل الرابع من الكتاب وصل الباحث إلى مقترحاته لتجاوز هذه الوضعية المرتبكة التي يعاني منها التنظيم الإسلامي المعاصر، الذي تحول إلى حزب سياسي ضيق الأفق التصوري، والممارسة العلمية، وسمى دعوته بالبيان القرآني للدعوة الإسلامية.
ويعتمد هذا البيان مرجعيا على القرآن الكريم، والدعوة إلى تجديد القراءة له تدبرا وتفكرا وإيمانا وعملا.(135) فالحركة الإسلامية بنظر فريد، في حاجة اليوم إلى هذا البيان القرآني؛ لأنها استهلكت في مهمات إدارية ذاتية، وانشغالات جدلية وإعلامية لا تنتهي، واستدرجت لتلعب خارج حلبة الصراع، مهما تزيت بأزياء المواجهة السياسية والتصعيد الرافض، أو المشاركة السياسية النقدية.(ص135) فالرهان اليوم، بنظر الباحث، على تدين المجتمع، وبعث شعور ديني شامل خارج التقيد بالإطارات التنظيمية الضيقة، ذات النزوعات الاستعراضية. وحمل الباحث على ظاهرة عرض التدين للناس على أساس جماعات وتنظيمات؛ فعندها يستجيب المنخرطون لخدمة التنظيم من حيث هو اجتهاد معين، ولا يهتمون بخدمة قضية الإسلام والهوية الدينية للمجتمع. وعليه يصل الباحث الأنصاري إلى أن التنظيمات الإسلامية منذ مدة وهي تضرب في التيه، مما يفترض بعثة إسلامية جديدة تجدد المضمون الوجودي للدين, من خلال وظيفتين: الأولى تجديد الوعي بالمفاهيم الدينية على مستوى الفهم، والثانية تجديد الإحساس بها على مستوى الوجدان أو القلب؛ وهذا ما يؤهل مشروع التجديد الديني للتوغل في البنية الاجتماعية للمجتمع. (ص138) ولن تتحقق هذه البعثة التجديدية بكل وظائفها إلا من خلال الدعوة إلى الله والقطع مع أساليب الدعوة الإيديولوجية, وهي الدعوة إلى الأحزاب والهيئات والتنظيمات؛ حيث تم إيهام المتدينين بأن الدعوة إلى التنظيم هي دعوة إلى الله، فانحصرت الموارد البشرية للحركات الإسلامية في أولئك الذين عندهم استعدادات تلقائية للعمل التنظيمي بمواصفات خاصة. بل تسرب إلى مناضلي الجماعات الإسلامية شئ مما يسميه الباحث ب”الوثنية الخفية”؛ إذ يقيم المنتمون نوعا من قياس الشبه بين جماعتهم وبين الإسلام؛ فأصبح الداخل إلى هذه الجماعة أو تلك كأنما قد دخل إلى الإسلام، ومن بقي خارجها كأنما بقي خارج الإسلام. (ص149) وهذا إحساس خفي لدى الأعضاء التنظيميين، قد لايعترفون به شكليا، لكنه يتحكم في سلوكاتهم ومواقفهم ومعاملاتهم، وهذا انحراف عقدي كبير بنظر الباحث. ودعا الأنصاري إلى استقلالية الدعوة عن التنظيم، وليس فقط عن العمل السياسي، فربط العمل الدعوى بالإطارات التنظيمية خطأ شرعي فادح ومحال اجتماعي واضح.
إن العضو التنظيمي اليوم، في الجماعات الإسلامية، يعاني, بنظر الباحث, من العطالة، وإنما يوظف انتماءه لتحقيق نوع من الاقتناع اللاشعوري بإفراغ الذمة من المصير الأخروي: فأصبح الانتماء عند مناضلي الجماعات الإسلامية أشبه ما يكون، نفسيا، بصكوك الغفران البابوية.(ص150).
إن التنظيم الإسلامي، بنظر الباحث، مهما تعددت ألقابه وأشكاله وشعاراته، ليس إلا أداة إيديولوجية تدافع على رأي في السياسة أو النقابة أو الإدارة أو الاقتصاد, أما الدعوة إلى الله فهي غير ذلك؛ إنها عمل عام تلقائي مع كل الناس, إنها دعوة إلى الإيمان وتعلق القلب بالله عز وجل وبالغيب. أما الدعوة بالتنظيم وإليه، فتحوله، أي التنظيم, إلى واسطة بين الخلق وربه، بل الأدهى أنك تجد من الأعضاء المنتظمين, بنظر الباحث، من يشعر أن تعبده في إطار هذا التنظيم أفضل من تعبده في إطار تنظيم آخر، غالبا ما يكون التنظيم الآخر خصما ومنافسا في الإيديولوجية التنظيمية والسياسية، تحت لافتات دينية عدة !
إن الدعوة إلى الله، بنظر فريد الأنصاري، ذات عمق جمالي، تلوثه الحركية الانتمائية، وتوقع الدعوة في شرك خفي باعتماد أشكال متعددة مما يسميه الباحث “التلبيس الانتمائي”.
إن إحياء هذا المفهوم الجديد/ القديم للدعوة إلى الله خالصة، وخارج كل الحسابات الانتمائية والمصلحية الضيقة، يمر عبر بعث الرسالة القرآنية، بما هي هداية إلى العالمين، وليس “مانفيستو” إيديولوجي، على عادة بعض الجماعات في التعامل الوظيفي والاستخدامي مع القرآن الكريم، استشهادا واقتباسا..والبعث الجديد ينجز عبر عملية التبليغ للناس يقودها الربانيون والمستمدون من نور القرآن العظيم، ويستبعد منها الايديولوجيون والمتحزبون الدينيون. إن مهمة البلاغ والتبليغ تتجسد في طرق الأبواب بالقرآن الكريم، والدخول إلى المؤسسات والبيوت، واقتحامها بنور الله، وليس بالإيديولوجيا. إن التبليغ هو حمل كلمة الله إلى الناس لأنهم في حاجة ماسة إلى القرآن الكريم، فهو مادة الإسلام الأولى.
والدعوة بالقرآن الكريم، تعفينا من أصر وأغلال البرمجة التنظيمية والدعوية الثقيلة والبطيئة، وتخرجنا مندوامة تنظيمية سيزيفية أحكمت قبضتها على الكثيرين، واستلبتهم لإطاراتها المغلقة والعنصرية، في بعض الأحيان للأسف؛ فتشكلت كائنات تنظيمية عصابية ومهووسة، لاتخرج من لقاء تنظيمي إلا لتدخل إلى آخر، ولا تتلذذ إلا بجمع ركام من المسؤوليات والمهام، لاينجز منها شئ، عبث في عبث، وحلقة مفرغة، وزمن وهمي لاينتهي، وطموحات, أو بعبارات أدق, أحلام وهذيان.
إن دعوة الرسول وإسلام الصحابة رضوان الله عليهم، كان ببساطة مدهشة، إذ تحولت عقول وقلوب، ملأها الجحود والعداء والكفر إلى عقول وقلوب مؤمنة ومطمئنة تضحي بكل شئ من أجل رسالة الإسلام، رسالة التوحيد والهداية للناس. إن القصص مدهشة وبسيطة، لكنها تعبر عن قوة مادة التبليغ وهي القرآن الكريم، الذي يغشى العقول والقلوب، ويشعر الناس بالانتقال من الظلمات إلى النور “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”(الاسراء:9).
ويسجل الباحث أن أغلب الحركات الإسلامية ابتعدت عن القرآن الكريم، فخطابها يشدو خارج سرب القرآن بسبب انشغالها بكلام قادتها وأشياخها وأقطابها؛ وهي التي تدعو إلى ذاتها وأعتابها؛ وهي وثنية من الوثنيات الباطنة.(ص164).
إن التجديد الديني، بنظر الباحث، يمر عبر فقه مراتب الأولويات الدعوية، واستبعاد العمل السياسي كممارسة جزئية حرفت مسار العمل وسببت له المشاكل بل وأزالت الدعوة من الطريق ودحرتها. ولا نحتاج إلى إعطاء الأمثلة فهي أوضح، ربما للمبصرين، من الشمس في واضحة النهار !! والمرحلية ليست فقها لأحكام الشريعة، وإنما هي فقه لأحكام الدعوة، وهي منهج في الدعوة وليست منهجا في الفتوى.(ص168).
ودعا الباحث إلى جعل الدعوة الخلقية في مقدمة المهام، لأنها تمس جانبا أخطر مما قد تلمسه السياسة أو الثقافة،و استند إلى العلامة الأخلاقي بديع الزمان النورسي في قوله إن نسبة الأخلاق والعبادة وأمور الآخرة والفضيلة في الشريعة هيتسع وتسعون بالمائة، فيما نسبة السياسة لا تتجاوز الواحد بالمائة. (صيقل الإسلام للنورسي.(ص 446). ويعطي الأنصاري لكلمة أخلاق معنى تعبديا شاملا.
لقد سعى الأنصاري إلى توجيه نظر الحركات الإسلامية من الإهتمام بالدولة إلى الإهتمام بالمجتمع، مما يؤكد أن دعوة الإسلام هداية وتربية وأخلاق، وليست مغالبة على الحكم والسلطة. أمر يحتاج إلى مراجعة في التصورات والمفاهيم والمناهج. فليس سهلا على المناضلين الإسلاميين قبول أن العمل السياسي ليس أصلا من أصول الدين ولا التدين، وليس هو، بناء على ذلك، أصلا من أصول الدعوة، وقد تذوقوا حلاوة الممارسة السياسية.(ص 181). سيقولون، بلا شك، إنها علمانية جديدة تتخفى وراء الدعوة. ثم ليس هينا على الإسلاميين الإقتناع بأنهم أساؤوا للإسلام بتحزيبه.(ص 182). أو أن حركاتهم لم تنجح نجاحا حقيقيا في تحقيق الأمانة في ذاتها، ولا في التبشير بها كقيمة دينيةكبرى.(ص 182).
إن هذا النقد لم يوجهه خصم سياسي متعصب على الحركات الإسلامية، أو علماني مأجور، أو عميل لجهة ما، إنما صدر من باحث متمرس، وعارف بخبايا التنظيم الإسلامي، فهو إلى وقت قريب عضو المكتب التنفيذي في حركة التوحيد والإصلاح، وصاحب مساهمات حركية ودعوية في مجالات عدة، قبل أن يطلق التنظيم ويغادره، ويصرح برأيه الصريح والشجاع. وهو يحمد عليه كثيرا. قد يفقد الإخوان الأصدقاء، والأتباع التنظيميين، وقد يخسر سمعته، لما يمكن أن يشن عليه من تحامل وتجاهل، وقد بدأ بالفعل, حيث حملات التشكيك والتهوين من أفكاره، ولكنه سيربح حريته ومصداقيته، وقدرته الكبيرة على البحث الموضوعي الصريح. كما ستفرح به حركة النقد والمراجعة والتصحيح التي بدأت تتبلور وسط الصف الإسلامي بالرغم من حملات الأجهزة التنظيمية ومستخدميها ضد كل صوت ناقد، وبرغم اختلاف زوايا نظر أطراف الحركة النقدية المباركة.