سـبـل الـتـخـلـق بـالإخــلاص


الحديث عن موضوع “سبل التخلق بالإخلاص” من الأهمية بمكان : ذلك أن الإخلاص خلق عظيم لا يُنال إلا بالجد والمجاهدة الدائمة للنفس والهوى والشيطان يقول الله سبحانه وتعالى : {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}  ويقول سبحانه وتعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص } ويقول عز وجل كذلك : {قل إن صلاتي ونسكي  ومحياي  ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} وقال الرسول  لسعد بن أبي وقاص ] : “إنك لن تُخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددتَ به خيرا ودرجة ورفعة” وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك ] قال: قال رسول الله  : >ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم< أي لا يبقى فيه غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله وتنقيه منه وتخرجه فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل وكذلك يغل على الغش وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة فهذه الثلاثة تملأه غلا ودغلا ودواء هذا الغل تجريد الإخلاص لله عز وجل وقال : >إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية التي هي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء<، وهو من أواخر عوائل النفس وبواطن مكائدها وهو الداء الدفين الذي هو أعظم شبكة الشياطين.

وقد تنوعت عباراتهم في الإخلاص والصدق فمما قيل فيه :

“الإخلاص هو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين”.

وقيل : “هو التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك والصدق هو التنقي من مطالعة النفس فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له، وقيل : “الإخلاص هو استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره، وقيل الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فحقيقة الإخلاص كما قال الراغب: هي التبري عن كل ما دون الله”.

وإن الباعث، الذي يتفرع عنه سواه، على الإخلاص : هو تكبير الله، تكبير الله في النفس، تكبير الله على الأهل والولد، تكبير الله على المال والجاه وإن إبليس أصبح من الفاسقين بسبب منازعته لله عز وجل في كبريائه: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}وقال تعالى: {فبعزتك لأغونهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}.

وإن من الأسباب التي لا ينبغي إغفالها في أمر الإخلاص والتي تُستخلص عندما نتفرس لأنفسنا أن نعي أن صفاء الابتداء مؤسس لاستمرار الاهتداء، فكل أمر تغلب عليه الصفة التي بدأ بها. يقول الشاعر:

وكل امرئ والله بالناس عالم

له عادة قامت عليها شمائله

تعودها فيما مضى من شبابه

كذلك يدعو كل أمر أوائله

فهو الابتداء إذن، أي الخطوات الأولى للمسلم في الطريق الموصل إلى الله حينما تكون صحيحة صافية، يتم الارتقاء بإذن الله وإن حدث الفتور فبمقدار لا يضر.

ومن أيقن أنه يتبع رسولا من أولي العزم  فكيف لا يستمد من عزمه. فكل ذلك إنما هو النية الحرة فهي صفاء الابتداء فالمسلم لا يصدر قط عن شهوة ولا طلب مصلحة، وإنما كل حركة وسكنة تطلعات إلى الأجر.

وبذلك فإننا أحوج ما نكون إلى ترسيخ سر الإخلاص في قلوبنا وذلك باجتناب الأسباب التي تثلمه، فلا وثوق بالنفس الأمارة بالسوء ولا اعتماد عليها قط يقول الله سبحانه وتعالى: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}ولأجل الوصول إلى الإخلاص والظفر به والحفاظ عليه لنجعل  الأمور الآتية رائدا لنا.

> الأمر الأول : ابتغاء مرضاة الله في عملنا وذلك بتفقد الأعمال ومراقبتها لتصير خالصة له سبحانه بفضله ومَنِّه فإذا رضيهو سبحانه فلا قيمة لإعراض العالم أجمع ولا أهمية له. يقول  : >إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي< وإذا قبل سبحانه فلا تأثير لرد الناس أجمعين، لذا ينبغي جعل رضا الله وحده دون سواه القصد الأساس في هذه الخدمة. خدمة الإيمان والقرآن.

>  الأمر الثاني : هو عدم انتقاد العاملين في هذه الخدمة القرآنية وعدم إثارة نوازع الغبطة في التفاخر والاستعلاء، لأنه كما لا تحاسد في جسم الإنسان بين اليدين ولا انتقاد بين العينين ولا يعترض اللسان على الأذن بل يكمل كل منهم نقص الآخر ويستر تقصيره ويسعى لحاجته ويعاونه في خدمته.

نحن كذلك بحاجة ماسة بل مضطرون إلى الاتحاد وعدم التنازع والتساند وعدم التنابذ للفوز بسر الإخلاص.

أما حكمة هذا السر فهي أن كل فرد من عشرة متفقين حقيقة يمكنه أن يرى بعيون سائر إخوانه ويسمع بآذانهم، أي أن كلا منهم يكون له من القوة المعنوية والقيمة ما كأنه ينظر بعشرين عينا وبفكرة عشرة وبعقلهم كذلك وهذا يقوي من صف الإيمان ويضعف صف الشيطان ويقوي الخير ويضعف الشر.

> الأمر الثالث : إخلاصنا في جسديتنا: أي أن علينا أن نفضل إخواننا علينا في المراتب والمناصب والتكريم حتى في المنافع التي تهش لها النفس وترتاح إليها بل في تلك المنافع التي هي خالصة زكية كتعليم الإيمان والقرآن.

> الأمر الرابع : هو تمثل مزايا المؤمنين الصالحين وتصورها في أنفسنا وعد فضائلهم في ذواتنا ولله الفضل والمنة، وذلك بأن لا ينسى كل واحد منا نفسه، ويعيش مزايا إخوانه وفضائلهم حيث أن قوة البناء في تماسكه: يقول الرسول  : >المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا< وأس أساس البناء هو الخلة، هو الإخلاص التام فمن يقصر فيه فقد هوى.

> الأمر الخامس :  “رابطة الموت” فكما أن طول الأمل يثلم الإخلاص ويفسده ويسوق الناس إلى حب الدنيا وإلى الرياء، فإن رابطة الموت تذهب بالرياء وتحضر الإخلاص وذلك بتذكرنا الموت وبملاحظة فناء الدنيا وزوالها يقول الله سبحانه وتعالى : {كل نفس ذائقة الموت وإنكم إلينا لترجعون} ويقول الله عز وجل: {وإنك ميت وإنهم ميتون} فيُزال بذلك توهم البقاء وحلم الأبدية ويقول  : >أكثروا من ذكر هادم اللذات<.

> الأمر السادس : استشعار الحضور الإلهي يقول الله سبحانه وتعالى:  {وهو معكم أينما كنتم} ويقول الله سبحانه وتعالى :  {والله على كل شيء شهيد} ويقول  في الحديث الطويل المعروف في تعريف الإحسان : >أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك<، فلا يُلتفت إلى غيره ولا يُستمد من سواه حيث أن النظر والالتفات إلى ما سواه يخل بأدب الحضور وسكينة القلب.

> الأمر السابع : ذكر الله بذكر النعم : الرحلة من الأكوان إلى المكون يقول الله تعالى : {يا أيّها الناس اذكروا نعمة الله عليكم}، ويقول سبحانه : {اذكُروا آلاء الله لعلكم تفلحون}، النعم الخاصة والعامة، لا في خلقك ولا في أبناءك، ولا في أهلك ولا في وظيفتك في أي شيء، ذكر النعم الصغيرة التي لا يلتفت إليها ما يسمى بالبنيات التحتية للكون : الماء -الشمس -الأرض -الهواء -السماء كل ذلك موصل إلى الاخلاص انشاء الله.

> الأمر الثامن : التبري من الحول والطول وحصر ذلك كله في الله جل جلاله وذلك معنى لا حول ولا قوة إلا بالله فسبيل لا حول ولا قوة إلا بالله مورث للإخلاص.

من تطبيقات الإخلاص : الصلاة

وبعد هذه السبل التي بها يحضر الإخلاص أسوق سبيلا عمليا واحدا أحسبه رأس الأمر وهو الصلاة التي يقول فيها المصطفى  : > العهد الذي بيني وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر< أو كما قال  أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة. والصلاة نموذج لتمام التجرد والإخلاص، ولذلك ينبغي للمصلي وهو قائم بين يدي ربه أن يتوجه إليه في تجرد كامل فلا يأتي عملا ولا قولا إلا ما كان من شأن الصلاة واستشعار التوجه إلى الله وهنا انصراف عن دنيا الناس بأقوالها وأفعالها وإقبال على الله.

ولَم يكتمل شرع الصلاة حتى حررت من كل شواغل العمل والكلام وصارت قنوتا خالصا لله وقد روى زيد بن أرقم >إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي  يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت<.

والإمساك عن شواغل الحياة بضبط اللسان والجوارح إلا عن ذكر الصلاة وأفعالها. إنما هو سبيل عملي عن التجرد النفسي لله والانشغال بمناجاته من كل خاطر وهم وتحقيقا لهذا التفرغ المطلوب كان على المصلي أن ينفي عنه كل مرئي أو مسموع أو محسوس من شأنه أن يختطف انتباهه أو اهتمامه ويصرفه عما هو فيه ويسلمه إلى الغفلة عن الله والإقبال على ما سواه وعلى المصلي من أجل ذلك أن يتحين في صلاته ظرفا يكون بحالته الذهنية أصفى وأكثر طمأنينة لعله يكون أشد حضورا لذهنهوانتباها إلى شأن مناجاة الله وأكثر قنوتا وتجردا: يقول  : >إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه< وقد يجتهد المصلي فينفي عن محيطه كل محسوس ومشهود ويُعمل فكره في معاني الذكر ثم لا يملك إلا أن ينفلت من إطار نجوى ربه فترد عليه الخواطر أشتاتا من شؤون الحياة ويجول فكره في هموم يومه ويسرح بعيدا عن استشعار حضرة الله وإنما مرد ذلك إلى شدة التعلق بأغراض الدنيا وإلحاح الحاجات والأوطار التي تستولي على القلب وما أحسن فقه أبي حامد الغزالي في معنى التجرد لله في الصلاة إذ أفاض في اشتراط القلب وخلص إلى أن حضور القلب هون روح الصلاة وأن أقل ما يبقى من رمق الروح الحضور عند التكبير فالنقصان منه هلاك وبقدر الزيادة عليه تنبسط الروح في أجزاء الصلاة وكم من حي قريب من ميت فصلاة الغافل في جميعها عند التكبير كمثل حي وهو ميت ثم استأنف الغزالي حديثه يقترح دواءا لدفع ما به من الخواطر الواردة لأسباب خارجية وباطنية فيقول أما الخارج فهو ما يقرع السمع أو يظهر للبصر فإن ذلك قد يختطف الهم حتى يتتبعه ويتصرف فيه ثم تنجر منه الفكرة إلى غيره ويتسلم ويكون الإبصار سببا للابتكار  وهكذا دواليك.

وأما الأسباب الباطنية فهي أشد فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا لا ينحصر فكره في هم واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب فهذا طريق علاجه أن يرد النفس قهرا إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ويشغلها به عن غيره ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يجدد على نفسه ذكر الآخرة وموقف المناجاة وخطر المقام بين يدي الله سبحانه وهو المطلع ويفرغ قلبه عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلا يلتفت إليه خاطره.

والذي يقبل على صلاته بجد يؤديها حق الأداء من كل شاغل وخاطر فقد أصاب من الله أجرا كبيرا يقول الرسول  : >ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه فيقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه وبوجهه إلا وجبت له الجنة< ؛ ثم من يتعهد الصلاة بهذا القنوت الظاهر والباطن فإنها تحدث آثارها في سائر أعماله وفي منهج حياته بما تزرع في نفسه من معاني التوحيد والإخلاص.

وإذا طال عهد المرء بذكر ربه وخاض في الحياة مع الخائضين فإن حاجات دنياه وزينتها وشهواتها تحيط به حتى تقطعه عن ربه وتستغرق كل همه وتستأصل كل إيمانه وتميت في نفسه معاني التسامي فوق أسباب المادة القريبة فيصبح ولاءه من جنس ولاء الحيوان، وهكذا تسود في المجتمع عصبيات اللون والعرق والوطن ولا يجتمع الناس إلا على مصلحة ظرفية أو غرض زائل أو عرض قريب.

فإذا تعهد المرء الصلاة ووالاها طول يومه وداوم عليها كل عمره وثقت صلته بربه وعلمته بقنوتها معاني الترقي فوق ضغوط البيئة المباشرة ونزهت تعلقاته من عصبية الحيوان وشهوة الشيطان فيصير ولاؤه لوجه الله قائما على الرحابة والوعي لا على الضيق والعمى ويكون تعاونه مع الناس ابتغاء مرضاة الله عميما خيره دائما أثره بريئا من الأنانية والعدوان.

وتثبيتا لهذه المعاني كان هتاف الصلاة المتكرر هو ” الله أكبر” إعلاء لله على كل غاية تكبر عن الإنسان وتقويما للعلاقة به على كل علاقة. وتقترن الشهادة المتكررة بوحدانية الله بالشهادة بمحمد عبدا ورسولا لله وقدوة للمسلمين يتوجهون إليه بالاتباع والولاء. ثم يذكر المصلي في الفاتحة صحبة الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم ومجانبة المغضوب عليهم والضالين كما يذكر في تشهده عباد الله الصالحين. وبهذه الأذكار ترتسم معالم علاقات المسلم وولاءاته لله ولرسوله وللمؤمنين : {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>