هـذا الـمـلـف


أخي القارئ لقد خصصنا ملف هذا العدد لأمر هو السر الكامن وراء كل الأمور، والأمور الأخرى كلها تنطلق منه وتنبع منه وكلها تصدر عنه : الإخلاص، بالإخلاص وصل إبراهيم عليه السلام إلى درجة الخلة {واتخذ الله إبراهيم خليلا} وبالإخلاص وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى درجة الخلة “لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا” ولكن الله هو خليل رسول لله صلى الله عليه وسلم. الإخلاص في صورته الكاملة، التي لا تبقى شيئا من العبد لا يتجه إلى الله، الإخلاص الذي يطهر القلب مما سوى الله فيطهر الجوارح من الاشتغال بغير ما أمر الله رجاء أن يهبنا الله عز وجل -وهو الوهاب، يهب من يشاء ما يشاء- هذا السر، وأن يهبنا هذه الصفة الرفيعة التي اسمها نفسه مُحَبَّبٌّ إلى النفس، فيها خلوص تام من كل الشوائب، فيها صفاء لا كدرة فيه، لا شوب فيه، لا يخالطه شيء، هو أصفى من الذهب، اللهم أكرمنا بالإخلاص.

إن معنى سورة الكافرون ومعنى سورة قل هو الله أحد بينهما تكامل ولو تأملنا قليلا لوجدنا كأن سورة الكافرون فيها نفي عبادة غير الله، وسورة الإخلاص فيها إثبات هذه العبادة لله، فهما معا يجمعان لا إله إلا الله، الأولى تنفي {قُلْ يا أيُّها الكافرون، لاَ أعْبُد ما تَعْبُدون ولاَ أنْتُمْ عابِدُون ما أعْبُد ولا أنا عَابِد ما عبَدتُم ولا أنْتُم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين} حتى الساعة النفي هو الأساس والأخرى فيها الإثبات هو الأساس {قُلْ هُو اللَّهُ أحَد اللّهُ الصَّمَد لمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَد} وهذه السورة تسمى سورة الإخلاص وهذا اللفظ حُقَّ أن يطلق عليها، سورة الإخلاص قد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبها فأصبح لا يصلي صلاة إلا وهي فيها حتى شكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لِمَ تفعل ما تفعل؟ فقال: أحب هذه السورة فأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك وعرف أنه ارتبط وتعلق بالله جل وعلا، وجد أن هذه السورة الصغيرة الموجزة المركزة التي ورد في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن وما عدلها لثلث القرآن إلا لهذا المعنى، كأن ثلث القرآن كله متخصص في بيان التعريف بالله جل وعلا أسماءًا وصفات وأفعالاً، والفاتحة تنبئ بذلك في المطلع إذ القسم الأول منها الجملة الاسمية التي تعدل ثلث البناء فعلا كلها تعريف بالله جل وعلا {الحَمْدُ للّهِ ربِّ العَالَمِين، الرحمن الرحيم مَلِك يَوْمِ الدِّين} هذه سورة الإخلاص والكلمة الجامعة المشهورة التي تجمع بين السورتين تسمى عند العلماء كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله)، كلمة الإخلاص، هي الكلمة التي إذا حقق العبد معناها صار عبدا مُخْلَصاً ولذلك كان المرسلون والأنبياء من طراز المخْلَصِين الذين أُخْلِصُوا يعني خَلَصُوا فأَخلَصُوا فأُخْلِصُوا رضوان الله عليهم أجمعين، هؤلاء المخْلَصِين يمثلون كل ما يتعلق بالإخلاص فهذه الكلمة يجب أن تذاق وعليها المدار “وأفضل ما قلته أنا والنبيئون قبلي لا إله إلا الله”، فالإخلاص على هذا هو خلوص العبد لمولاه من جميع الشوائب وصيرورته خالصا لله، فيما يوجد بقلبه، فيما يسكن قلبه أو فيما يأتي على لسانه، أو فيما تفعله جوارحه، وفعلا تطالعنا هنا العبارة المشهورة التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنّ صَلاَتِي ونسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي للّهِ ربِّ العَالَمِين} فهذا  هو التجرد بتعبير القدماء (وكأنها تزيل جميع ثيابك وتصير متجرداً) معنى لا يبقى عليك شيء ليس لله، تتجرد مما سوى الله لله، تتخلص مما سوى الله للخلوص لله سبحانه وتعالى، وهذا جامع الأمر، الأمر الجامع فعلا كل ما سيأتي بعد هذا مرده إلى هذا  كيف يكون من تحسب له حسابه والذي هو أمامك، والذي هو محركك في الأمر كله ومسيرك في الأمر كله فعلا هو الله.

بناءاً على هذا نحب أن ننبه قراءنا الكرام إلى هذا الأمر الذي كثيراً ما نؤتى منه وذلك بتناوله وفق ثلاث مقالات يكمل بعضها بعضا، وهي بالترتيب:

1- الإخلاص حقيقته، درجاته، فضائله.

2- سبل التخلق بالإخلاص.

3- شوائب الإخلاص ومكدراته.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>