دروس من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم :الاصطفاء : قواعده، مراحله، شروطه ووظيفته


حكمة الاصطفاء :

بما أن الاصطفاء سنة ربانية فقد علمنا الله أن نتخذه منهجا لنا في حياتنا كلها، فنختار الأنسب لكل عمل في جميع مجالات الحياة.

قالت ابنة الرجل الصالح، حَاثَّةً أباها على اسْتِئجَار موسى عليه السلام، ومُنَوِّهة على الخصال المرشِّحة لاختياره للمهمة المنوطة به {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسّتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ}-سورة القصص-.

وأرشدنا  إلى إحسان اختيار دعامتي الأسرة : الزوج والزوجة، فقال : >إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأَرْضِ وفَسَادٌ عَرِيضٌ< -رواه الترمذي- >تُنْكَحُ المرْأَةُ لأَرْبَعٍ : لِمالِهًا ولِحَسَبِهاَ ولجَمَالِها ولِدِينِهَا فاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ< -متفق عليه- وقال تعالى: {وإذاَ جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} حيث جَعل أولي الأمر من العلماء والخبراء والأمراء والمختصين هم المُصْطفَيْن لتحليل الأخبار والقرارات المؤثرة على مصير الأمة، وهم المرشحين لمعرفة كيفية إنزال الخبر أو القرار حتى لا يثير فتنة، وهذا معناه أن المسؤوليات الجِسَامَ في الدولة، مثل مراكز الأمن، والشورى، والمراقبة، والتخطيط العسكري والاقتصادي والسياسي، ومثل مراكز التشريع والتقنين، ومَرَاكِزِ المُكَافَحَةِ للتيارات والدعايات المسمومة… كل ذلك وغيره ينبغي أن يُصْطَفى له أولو الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم، ويعلمون أن ما أنزل الله على محمد  هو الحق الذي ليس بعده حق.

بل حثَّنا الله تعالى على اصطفاء القول الحسن، وأرشدنا الرسول  إلى اختيارأحسن الأسماء لأولادنا، ومناداة بعضنا بعضا بأحسن الألقاب والصفات… الأمر الذي يجعل الاصطفاء منهجا مؤصَّلاً في حياة المسلم كلها صغيرها وكبيرها.

أفَتَكُونُ الدَّعوةُ لدين الله أقل شأنا من سائر الوظائف الاجتماعية، حتى يُتْرَكَ أمرُهَا للصُّدفة والعَفْوِيَّةِ؟؟!

إن الله تعالى يقول : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ}-سورة فصلت- فقد جعلها الله تعالى أشرف وظيفة، ولذلك اختار لها صفوة الخلق من الأنبياء والرسل والصالحين من عباده.

قال : >لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ يَخْذُلُهُمْ حَتَّى يَاتِيَ أَمْرُ اللَّهِ< رواه مسلم والترمذي وقال : >إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ. إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوادِيناراً وَلاَ دِرْهَماً وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ< -رواه أبو داود والترمذي- وقال >يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الضَّالِّينَ وتَأْوِيلَ المُبْطِلِينَ<-رواه احمد والترمذي والحاكم-.

وهكذا يمكن تلخيص الحكمة من الاصطفاء في بعض النقط التالية :

1- البحث عن الطاقات الكامنة في الأمة لتفجيرها وتوظيفها لصالح المسلمين، أو محاولة العثور على الرَّوَاحِل حسب التعبير النبوي الكريم >النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهاَ رَاحِلَةً< -أو كما قال – فالإبل كثير، ولكن الناقة التي تعتمد عليها في السفر والترحال، لحمل الأعباء والأثقال، تكاد تكون معدومة، وكذلك الأمر بالنسبة للمسلمين وهم كثيرون -بحمد الله تعالى- ولكن العاملين الدعاة قليلون يحتاج البحث عنهم الى نور البصيرة، واشراقة الهدى.

والقلة لا تعني الانعدام، ولكن تعني أن من سنن الله تعالى في خلقه تكثير الجنود والأتباع، وتقليل القادة والنبغاء ليحصل التوازن بين القوى التنفيذية والقيادية ولا تكثر التصادمات والتطاحنات، وهذا معناه أن الأمة ليست عُطلا من النوابغ والأفذاذ، ولكن الاهتمام بهم قَلَّ وضَعُف، فنتج عن ذلك هجرانُ الأدمغة الممتازة، واحتضانها -بتشجيع مادي كبير- من خصوم الأمة، وتسخيرها في خدمة استراتيجية مغايرة لأهداف الأمة وتوجهاتها العليا.

لقد جعل الله الأمة كلها وارثة للدين الإسلامي، إلا أن الورثة ليسوا على مستوى واحد من الإرث، فكان من واجب المهتمين بشؤون المسلمين البحث عن الأكثر حظا من الإرث لتسليمه الأمانة، أمانة الدعوة والإرشاد والتخطيط لترسيخ جذورها في كل ميدان، قال تعالى {ثُمّ أوْرَثْنَا الكِتابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا من عِبَادِنا فَمِنْهُم ظالِم لنَفْسِه ومِنْهم مُقْتصِدٌ ومِنْهُم سابِقٌ بالخَيْرَاتِ بإذْنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِير}-سورة فاطر-. فالبحث عن الرواحل، والسابقين بالخيرات، والعدول الثقات أكبرُ حكمة من حِكم الاصطفاء.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>