افتتاحية: يَفْرَحُ النَّاسُ بِرُؤْيَةِ اخْتِياراَتِهِمْ تَتَحَقَّقُ، وتَفْرَحُ الشُّعُوبُ العَرَبِيَّةُ بِرُؤْيَةِ أَمَانِيها تَتَمَزَّقُ


إن النجاح الذي تحققه الشعوب في المعركة الديمقراطية الحقيقية يُجَدِّدُ حيوية الشعوب، ويعطيها دفعات قوية للتقدم إلى الأمام في مختلف الميادين.

فهذه إسبانيا بعد أن استنام حِزْبُها الحاكم لمتَّكإ الإمبراطورية العالمية إذا بالانتخابات الجديدة تحسِمُ الأمر بسرعة، وتُطوِّحُ بالتوجه الانبطاحي أمام زعيمة النظام العالمي الجديد، وتختار من يفهم لغة الشعب وتوجهاته.

وهذا النجاح لليسار الفرنسي بفرنسا يُقابَل بالتيقظ السريع في جبهة الحكم، ويفرض على الحزب الحاكم الشروع العاجل في مراجعة الحساب للسياسة الاقتصادية وغيرها لتدارُك ما وقع من التفريط.

وهذا النجاح في تركيا لحزب العدالة يُقَابل بالاقرار للأمر الواقع، وعدم تسفيه توجُّه الشعب، والطعن في اختياره الحر، واتهامه بالجهل والسذاجة على غرار ما وقع بالجزائر وتركيا نفسها منذ زمن قريب.

إنها الشعوب الحية التي تُملي إرادتها، وتفرضُ اختياراتها وسياستَها وتوجهها على المسار الحكومي. إن أحسن زكَّتْه وشجعتْهُ، وإن أساء أسقطتْه وأقبرَتْه، وسارت في طريق الحياة المتجدِّدَة.

أما شعوبنا العربية فقد استنامتْ للديكتاتورية الممارسة عليها منذ مئات السنين، لا تُحِسُّ بنواقيس الخطر التي تُدَقُّ لها من بعيد أو قريب، لأنها أصبحت شِبه مَيِّتَة لكثرة ما توالى  عليها من غيبوبة الجهل، وفرط الالتصاق بالتراب واتِّباع أذناب البقر، وكثرة ما توالى عليها من ضربات القمع القامعة الصادرة من رؤوس خاوية فارغة، وعقول طينية متحجرة، لا تفقه للسياسة معنى، ولا تفهم للشورى لغة، ولا تستنير بنور شَرْعٍ، أو ضَوْءِ قانون، أو قنديل عُرفٍ إنساني جميل. وإنما هُو الهَوى الطامِس، والأنانية العمياء.

وهاهي بعض الرؤوس الكبيرة جدا : لحما، ودما، ووزنا، وبطنا، وقامة، وأكتافا تَدُورُ في آخيتها -مرابطها- معصوبة العينين لا تبصر خلفا ولا أماَما، ولا تقدر على التحرك يمينا أو يسارا، قد كَتَّفها تراكُم سنوات الجمود والتخلف والظلم والبطش بالأحرار، وحاصرها ضيق الأفق، وتضخُّم الغرور. فماذا تستطيع أمثال هذه الرؤوس أن تفعله أمام الهجمة الشرسة لتيار الحداثة المغترف من الملة الأجنبية؟! هل تستطيع المسايرة التامة شبرا بشبر، وذراعا بذراع فتذبح نفسها بسكين الانخلاع من ربقة الأصالة والخصوصية؟! هل تستطيع الترقيع؟! أم تستطيع المواجهة والمصارحة والمعارضة؟!

إنها أزمة، وأية أزمة؟! أزمة الاختيار الصعب الذي يحتاج إلى شجاعة نادرة، ولا يكفي فيه إحناء الرأس للعاصفة، لأن الأمر ليس أمر عاصفة مارَّة، ولكن الأمر أمْرُ سرطان تخلُّفِيٍّ مُريع، لا ينفع فيه إلا البتْرُ أو الكَيُّ المؤلم، وإلا حَمَل صاحِبَهُ إلى قَبْر السُّخط الأسود، أو الغضب العارم.

يظهر أن الأمر لم يَعُدْ يحتمل التأجيل أو التسكين، لأن صعودَنا في سَلاَلم التخلف والجهل والفقر والإهانة والسوْق بالعصا كما يُساق القطيع أصبح فوق الاحتمال، خصوصا وأننا ننتمي إلى أصح دين، وأفضل منهج إصلاحي شامل، ومع ذلك أصبحت الدُْونيةُ لا حقة بنا من دون بني البشر الذين كانوا أقبح مِنَّا دينًا وتاريخا، ولكنهم بدأوا يخطون خطوات محمودة في ميدان الكرامة الإنسانية والتحسن الاقتصادي والاجتماعي، فهل خُطِّط لنا، أم خطَّط جهلُنا لنا أن نرضى بالوضْعِ الدونيِّ لنعطي للناس مثالا حَيًّا عن التلازُم بين الاسلام والتخلف، الاسلام والجهل، الإسلام والخنوع، الإسلام والديكتاتورية، وبذلك نكون بسلوكنا وجمودنا أداة تنفير عملي عن رسالتنا التي لم نَعْبَأْ بها نحن، ولم ننتفعْ بها نحن، فكيف ننتظر أن يعبأ بها  الناس، ويُقبلون عليها إقبال الظمآن على  الماء البارد الزلال؟!

فهل آن الأوان للوعي بالشرخ الكبير الذي عَطَبَ مسيرتنا الحضارية، وشَلَّ طاقتنا، وقُدرتنا على التفاعل مع الدين والحياة، مع الدين والتقدم في علم التسيير والتسخير؟؟

وهل آن الأوان للإحساس بمواطن الخلل التي خلخَلَتْ ثوابتنا ومبادئنا؟ وفصلت بين قِمَمِنَا وقواعِدِنا؟!.

إذا كان الأمر كذلك فها هي بعض الأسس الكبرى للإصلاح المنطلق من الذات، والكفيل بإرجاعنا إلى الذات :

1- الحسم في تحديد المرجعية : من العبث العابث أن نبقى نحن -من دون الناس- لا نعرف أصلنا ومصدرنا، لابد أن يسأل كل واحد ـ صغيرا أم كبيراـ نفسَه : من نحن؟! هل نحن مسلمون أم نحن غير ذلك؟!

فمسلمون شيء، وغير ذلك شيء أخر. فقد مضى وقت خداعِ النفس واللعب على الحَبْلين، ومضى كذلك وقت خداع الشعوب، ولا نقول خداع الله، فالله عز وجل لا يُخدَع، وما يقع لنا من كوارث هو نتاج طبيعي لما نظنه خداعًا لله.

ما معنى أن يقول رئيس دولة من الحجم الكبير : “لو طَبَّقْنا الدِّيمقراطيةَ لَوَصَلَ المسلمُون إلى الحُكم” فمعنى هذا بصريح العبارة أنه :

> أخرج نفسه ـ طواعية ـ من الإنتصار للإسلام، وشهد على نفسه بالنفاق.

> وأنه وصل للحكم بطريقة مزورة، إِذْ لو لم يُزوِّر ما أجلسه الشعب المسلم على كرسي الحكم.

> وأنه يصادر حكم الدستور الذي يجعل الدين الرسمي للدولة هو الإسلام.

> وأنه يُرضي بتزويره للديمقراطية الذين يواليهم ويستمد منهم سلطته، فمصدر سلطته لَيْس الشعبَ.

فأي وجوه هذه؟! وأية أقْنِعة هذه التي يتعامل بها كبار قومنا مع ربهم، ونفوسهم، ومجتمعهم؟ ومن أي مرجعية كذلك يغترف الذين يسمُّون أنفسهم : “اسْتِئْصَالِيِّين” بدون مواربة، ولا مجاملة؟! ولماذا يهدفون إلى الاستئصال؟! وماذا سيُحققون من وراء الاستئصال لمن خالفهم سياسة، ومرجعية؟! وسلوكا؟! وتفكيرا؟! وهل الاستئصال سلوك حضاريٌّ من صميم الحداثة المُنادَى بها في كل الفضاءات؟! وهل الاستئصال يَدُلُّ على الفكر التعايُشي الكريم الذي نادى به الإسلام في صبحه المشرق؟!

إن تحديد المرجعية بوضوح يجعل الكبار والصغار يحترمون أنفسهم، ويتحفظون على ازدواجيتهم ونفاقهم، ويتحفظون على فَلَتاتِ الحقد والكراهية التي تفرق ولا تجمع، وتهدم ولا تبني.

2- الحسم في تحديد مفهوم الديمقراطية : إِذْ الديمقراطية الانتقائية هي ديكتاتورية مقنعة.

3- الحسم في تحديد مفهوم الإرهاب: إِذْ اعتبار المُدَافِع عن نفسه ووطنه المحتل إرهابيا يخلط كل الأوراق، ويهدم الشرع والقانون، والعُرف الدولي والمحلي، ويجعل الإنسان مضطرب الموازين.

4- الحسم في تحديد مفهوم السيادة:  هل السيادة للشرع والقانون؟! أم السيادة للأشخاص؟؟ أي هل القانون فوق الجميع؟! أم هناك أناس فوق الشرع والقانون؟! فالحسم في هذه النقطة ضروري لإرجاع كل إنسان إلى حجمه الطبيعي، فالكبير كبير بمواقفه وفكره وسلوكه، والصغير صغير بوضاعته وهمته الهابطة.

5- الحسم في حرية التعبير : فقد مضى  عهد تكوين الأجواق الإعلامية المُطَبّلة لهذا والمزَمِّرة لذاك.

6- الحسم في مسألة الحكم هل هو وسيلة أم غايةٌ في حد ذاته : فإذا كان وسيلة فهو محكوم بسنة التداوُل، التي لها قواعد وأخلاق وشروط ومرجعيات، على أساسها يتحقق النهوض، ويسود السلم الاجتماعي.

هذه بعض النقط الأساسية في بدء الحياة الحداثية الحضارية حقا، والمكرِّمة للإنسان حقا، التي ينبغي للقمم أن تتدارسها لتخرج بقرارات بانية، وعزمات تفوق ما يتغنى به الأفَّاكُون من التستر وراء الشعارات الخادعة، فقد مضى عهد الشعارات، وحان وقت الجد والعمل، حتى نَتَجَنَّبَ انفجار الشارع، أو قَطْع الأعناق بالسكاكين ا لأجنبية، إِذْ آنذاك ستفرح الشعوب بوحدة المشاعر، ووحدة الهدف، ووحدة العزم، وتلك لَعَمْرُ الأمة الانطلاقة الصحيحة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>