كثيرة هي آيات الله القرآنية التي توقفني عن الاندفاع السريع في مختلف شؤون الحياة, وتطلب مني التأني والتأمل في دلالاتها المتجددة يوما بعد يوم . من هذه الآيات الكريمة قوله تعالى : {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} . إن هذه الآية تذكرني باستمرار بأن لحظة الموت آتية لا ريب فيها في أي وقت من الأوقات دون إعلام، وتضع أمامي تساؤلا يخضني ويفزعني:”لماذا نصر على ممارسات نعرف أنها تبعدنا عن حقيقة الإسلام ومقاصده بل يمكن أن تخرجنا عن عقيدة التوحيد دون خشية أن يقتنصنا ملك الموت في لحظة من تلك اللحظات اللاهية فنهلك والعياذ بالله ؟؟” . وقد يعترض معترض على هذا التساؤل ليقول بأن المسلم لا يمكن أن يكون إلا موحدا ما دام قد ارتضى الإسلام دينا، لكن تأتي آية أخرى تجيب بقوله تعالى : {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} . إن هذه الحقيقة المرعبة المقررة في الآية الكريمةتؤكد أن الله لا يجامل أحدا، وأننا نستحق ما وصلنا إليه من انحطاط وتخلف، رغم كوننا ننتمي إلى أمة الخيرية {كنتم خير أمة أُخرِجتْ للناس} . إن النفس لتقشعر وتخاف من تصنيف الله تعالى لفئة من عباده، وهو خوف يجعلها تسعى لإعادة النظر في سبل تحريرها من مختلف العبوديات التي ترين عليها وتهوي بها يوما بعد يوم في هاوية المذلة والهوان والاستضعاف والإسفاف المادي والمعنوي, وتعمل على تجديد إيمانها لحظة بلحظة قبل أن يداهمها الموت دون أن تشعر . إن آيات الله القرآنية ليست للتلاوة أو للصلاة بها فقط ثم الخلود إلى الأرض وارتكاب ما عن لنا من التصرفات التابعة للهوى، وإنما هي لتنظيم حياة الإنسان وضبط سلوكياته وعلاقاته سواء مع الله عز وجل أو مع نفسه أو مع غيره . من هنا كان تجديد الإيمان بالله يتطلب استعمالا مستمرا للعقل والتفكر كي يكون التجديد عن يقين وقناعة يكفلان للمسلم السير في الحياة على ضوء الإيمان، وربطها -أي حياته- بالظواهر الكونية الدالة على وجوده تعالى وقدرته وصفاته، يقول تعالى : {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}(آل عمران:191 )، وربطها أيضا بالوعي السليم والتبصر الذي يبثه تعالى في مختلف الآيات من مثل قوله تعالى : {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(الذاريات :21) .لكن الناظر لأحوال الأمة وأحوال أفرادها لابد أن يعترف بتضييع العقل والتفكر والتبصر -إلا من رحم الله من قلة ما زالت تقبض على الجمر-، وهذا قد يفسر لنا أجزاء عدة من معاناة أمة الإسلام وهوانها وخسرانها {قلْ هل نُنَبئكم بالأخْسرينَ أعمالا، الذين ضلَ سَعْيهم في الحياةِ الدنيا وهم يحَسبون أنهم يُحسنونَ صُنْعا}(الكهف:99) . بل إن الله تعالى يبين لنا ما يطبع الأمة من غفلة إذا استمرت في تضييع قدرات العقل ونأت عن الاستجابة لصوت القلب والفطرة النقية يقول تعالى : {لهم قلوبٌ لا يفقَهون بها، ولهم أعْينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يَسمعون بها، أولئك كالأنعامِ بل هم أضل، أولئك هم الغافلون} . والغفلة عند الراغب الأصفهاني هي”سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ” . إن مثل هذه الغفلة هي التي تبعد المسلم عن إسلامه، وتُضَيع عقله وبصيرته، وتكرس عدم تدبر قرآنه، ولا تصله بما يُوَلِّد فيه الطاقات الروحية والقوى المعنوية التي تؤهله لاستيحاء المثل العليا والمعاني السامية من مصدرها المتصف بالكمال المطلق “الله عز وجل” وتزكية النفس وتطهيرها بالاقتراب من صفاته تعالى، وتمثلها في السلوك والعلاقات والأفعال . وكلما اقترب المسلم من هذه الصفات ابتعد عن الغفلة، فيبتعد مثلا عن الظلم ويتصف بالعدل والإحسان لأن العدل اسم من أسماء الله الحسنى، ويبتعد عن القسوة والغلظة في المعاملة ولو مع المسيئين إليه لأن الله الرحمن الرحيم اللطيف الودود، ويهجر الكذب والغش والنفاق والحسد والغدر لأن الله {العليم الخبير} الذي {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} سيحاسبه على ذلك حسابا عسيرا، وغير ذلك من السلوكيات والأعمال التي تدخله دائرة المستوى الحضاري الذي يقصد إليه الإسلام ، وتقترب به من استعمال وعيه وبصيرته في الكون وفي نفسه، فلا يخشى على نفسه من تحذيره سبحانه وتعالى في قوله : {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} . ذلك لأن أبواب الحب والتوبة والمغفرة مفتوحة على مصراعيها، يمكن لأي بعيد أن يقترب منها ويلجها مطمئنا وأن يرفع يديه فيها موقنا بالإجابة، يطلب ما يشاء من توبة وعزة . قال ابن القيم الجوزية رحمه الله في مدارج السالكين “التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله .فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه”(1/306) . اللهم اجعلنا من التوابين الذين يتجدد إيمانهم مع كل توبة، واجعلنا من المتطهرين الذين يزكون أنفسهم ويطهرونها في كل لحظة من حياتهم، عسى أن نكون من الذين يرفع الله بهم هذه الأمة ويعزها ويجدد الإيمان في شرايينها الذي يؤهلها لترشيد الحضارة الإنسانية وقيادتها نحو الخير والسلام والأمن .