اكتشفت إليزابيث تشيني فجأة بعد نصف قرن -وهي ابنة نائب الرئيس الأمريكي التي ترأس برنامج تنمية الديمقراطية في العالم العربي التابع للخارجية الأمريكية- أن المنطقة العربية “غير ديمقراطية”، وأنها تحتاج إلى “دمقرطة” عاجلة.
وإليزابيث تشيني لم تأت بجديد؛ فبرنامج “تنمية الديمقراطية في العالم العربي” قد تم الإعلان عنه قبل أكثر من سنة. والحقيقة أن هذا البرنامج -كما يقول الباحث الفلسطيني خالد الحروب- “يمثل نقطة انعطاف أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه موضوع الديمقراطية في المنطقة العربية؛ حيث كانت السياسة السابقة -التي كانت تترك الأمور الداخلية للشعوب والحكومات العربية- مريحة لجميع الأطراف، سواء الحكومات الاستبدادية أو الإدارة الأمريكية، ما عدا الشعوب العربية”. باختصار.. إن هذا البرنامج قام بتحويل دفة السياسة الأمريكية من “احترام الخصوصيات الثقافية” إلى التوغل في البنى الداخلية للمجتمعات العربية باعتبارها “المولد الأساسي للإرهاب”.
ويقوم أساس البرنامج على “مبادرة شراكة الشرق الأوسط” (MEPI) The Middle East Partnership Initiative التي تم الإعلان عنها في ديسمبر 2002؛ والممولة من قبل وزارة الخارجية الأمريكية. وتعمل هذه المبادرة على: الإصلاح الاقتصادي من خلال تنمية القطاع الخاص وتشغيل الاستثمار؛ والإصلاح التعليمي؛ وتنمية المجتمع المدني، وتفعيل الشفافية good governance))، وتدعيم مشاركة الرجال والنساء في العملية السياسية.
ويلفت السيد ياسين انتباهنا إلى أن الحالة العربية أضحت مشكلة عالمية! ويكفي للتدليل على ذلك -والكلام لياسين- الإشارة إلى التقرير الصحفي الذي أعده كل من “بيتر سليفن” و”روبين راين” بعنوان: إدارة بوش تعلن أن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط هو المهمة الأخلاقية لهذا العصر؛ حيث اعتمد هذا التقرير على الكلمة التي ألقتها كوندوليزا رايس -مستشارة الأمن القومي الأمريكي- أمام الجمعية الوطنية للصحفيين السود؛ فأوضحت أن “تطوير الحرية في الشرق الوسط هو التحدي الأمني والمهمة الأخلاقية لعصرنا”، من خلال إيجاد منطقة ذات مجتمعات مفتوحة بطريقة متزايدة، وازدهار اقتصادي، وحكومات تمثيلية.
وكما نلحظ -من كلمات كوندوليزا- فهناك ثلاثة مداخل للاقتراب الأمريكي الحالي من المنطقة العربية:
1- الاقتراب الثقافي الاجتماعي، حيث “المجتمعات المفتوحة بطريقة متزايدة”.
2- الاقتراب الاقتصادي الذي يتمثل في “الازدهار الاقتصادي”.
3- الاقتراب السياسي، حيث “الحكومات التمثيلية”.
ولنأخذ كل اقتراب بالتفصيل، محاولين استشفاف ما يكمن وراءه من أهداف حقيقية، ولكنها غير مكتوبة؛ ومحاولين أيضا رصد الممارسات الأمريكية مع الدول العربية -حتى الآن- في هذا الصدد.
الاقتراب الثقافي الاجتماعي
من الملاحظ أن هذا الاقتراب يقوم بالأساس على تبادل الزيارات الطلابية بين الدول العربية والولايات المتحدة، بهدف “تبادل الآراء الذي يساعد في تخطي سوء التفاهم، كما تقول إليزابيث تشيني؛ والتي تضيف: “إننا في نهاية المطاف نعيش جميعا في عالم أصبح أصغر. وأصبحنا أكثر قربا من بعضنا بعضا، ومن المهم الآن -أكثر من أي وقت مضى- أن يفهم بعضنا بعضا. لذا نأمل أن نتمكن من الاستمرار في تشجيع هذه الأمور من خلال مبادرة الشراكة”.
ويشكل التعليم عنصرا أساسيا في الاقتراب الثقافي الاجتماعي. ومن الممارسات الأمريكية في هذا الصدد قيام وزارة الخارجية الأمريكية بإعطاء دروس تعليمية لصحفيي “الشرق الأوسط” في أصول الدقة، والموضوعية، والتوازن في التقارير والإعلام المحلي.
وقد عقدت ورشة عمل بالأردن في أثناء الحرب على العراق، حيث قامت الخارجية الأمريكية بتدريب حوالي 40 أردنيا وفلسطينيا وسعوديا على المهارات الصحفية، والتحليل النقدي، وحرية التعبير. وكذلك قيامها في الجزائر بدعم برامج تنموية -تكلفت أكثر من 500.000 دولار في خلال عام 2002- بهدف تقديم تعليم تطبيقي عن مجال حقوق الإنسان لكل من القضاة والمحامين وممثلي المؤسسات غير الحكومية.
وأيضا قامت بتمويل مؤتمرات للتعليم المدني للنشطين الأردنيين؛ وبتمويل وفد من العلماء الإسلاميين الأردنيين لحضور برنامج “الدين في الولايات المتحدة”.
أما قضية المرأة فهي تمثل محورا بارزا في الاقتراب الثقافي الاجتماعي. وأكثر ما لفت انتباهي -عند قراءة ممارسات البرنامج الديمقراطي لوزارة الخارجية الأمريكية- هو شيوع “برنامج الزائر الدولي” Visitor Program International في معظم الدول العربية إن لم يكن كلها.
ففي الجزائر مثلا، تم إرسال ثمانية جزائريين إلى الولايات المتحدة لتحصيل الخبرة الأولية في حقوق المرأة ودورها في المناصب الحكومية؛ وكذلك تم تشجيع هذا البرنامج في داخل البحرين.
ومن المغرب سافرت خمس ناشطات سياسيات إلى الولايات المتحدة بهدف مراقبة انتخابات الكونجرس الأمريكية التي أجريت في نوفمبر 2002.
كما أرسلت السفارة الأمريكية في لبنان خمس ناشطات لبنانيات إلى الولايات المتحدة، ضمن الخطوات المبرمجة لتأهيل المرأة العربية في الدخول إلى الحلبة السياسية.
وفي خريف 2002 قام البرنامج بدعوة أربع ناشطات كويتيات لإشراكهن في التأهيل الإقليمي المسمى بـ “النساء كمشاركات سياسيات”.
وكذلك تشكل برامج “التسامح الديني” لتمثل عنصرا آخر في الاقتراب الثقافي الاجتماعي، وتموله المساعدة الأمريكية USAID. وتتجلى تلك البرامج في مصر خاصة، حيث تذاع حلقات تليفزيونية باسم “شارع سمسم”؛ بالإضافة إلى الحوارات الدينية التي تنظمها السفارة الأمريكية بمصر.
ونجد في إيران -مثلا- تأييد الخارجية الأمريكية للحرية الدينية، خاصة للبهائيين. ومما يلفت الانتباه أن لغة “التسامح” لا تنسحب فقط على موضوع الدين، وإنما تنسحب أيضا على موضوع القانون؛ حيث تم إدراج وسائل أكثر ليونة لحل الأزمات، مثل الوساطة، والاستخدام الواسع “للوثيقة الجنائية”، كما هو الجاري تطبيقه في مصر.
وتلخيصا لما سبق، فإن مهندسي الخارجية الأمريكية يرون أن هذه البرامج (الثقافية والتعليمية والنسوية) من شأنها أن تقلل من حدة اليأس المتفشية في المنطقة العربية، ذلك اليأس الذي تراه إليزابيث تشيني مساهمًا بشكل مباشر في “إيجاد تربة خصبة لأيديولوجيات لا تقنع بالتطلع للتعليم الجامعي والوظائف وتكوين الأسر، بل إلى تفجير أنفسها وقتل أكبر عدد من الأبرياء معهم بقدر الإمكان”.
المدخل الاقتصادي
ترى تشيني أن التطرف والإرهاب ينبعان من الفقر، وأن تحسين الظروف الاقتصادية مرتبط بتحسين الأداء الديمقراطي. ومن ثم فمن المهمللغاية -بالنسبة إلى مستقبل المنطقة- أن يتحول النظام الاقتصادي إلى اقتصاد السوق، وأن يخف تدخل الدولة فيه. وفي الوقت نفسه فقد نفت أن تكون واشنطن تسعى إلى فرض أي سياسة معينة على دول المنطقة.
وأعربت عن اعتقادها بأن ثمة تجانسًا في المصالح بين الدول العربية والولايات المتحدة من أجل حدوث تغيير؛ “لأنه كلما عاش الناس بحرية يتعزز أمننا جميعا”، مؤكدة أن الأمر يتعلق بمصلحة الأمن القومي الأمريكي.
وتضيف تشيني: “نحن نعتقد أن هذه المثل هي الفضلى، والسبب ليس كونها أمريكية، بل لأنه إذا سألنا الناس في أي مكان أو زمان عما إذا كانوا يفضلون التمتع بالفرص لكي يجنوا المال الكافي لإعالة عائلاتهم، أو عما إذا كانوا يفضلون التعبير عن آرائهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، فإن جوابهم سيكون دائما إيجابيا أيا كان المكان الذي يعيشون فيه؛ لذا نعتقد أن هذه القيم عالمية، وأن التاريخ أظهر أن تمازج الحرية والفرص ضروري لنجاح الشعوب، ونرى أن ذلك ضروري كذلك لضمان أمننا جميعا”.
وفي هذا الصدد نجد الولايات المتحدة على اهتمام بحقوق العمال؛ فنجدها مثلا تدفع الحكومة الكويتية إلى التركيز على حقوق العمال، خاصة الأجانب منهم، الذين ينتشرون بكثرة في داخل الكويت. وكذلك نجدها تشجع الأحزاب في الأردن على وضع معايير العمل للعمال الأردنيين، خاصة المشتغلين في مصانع الملابس المتزايدة.
الاقتراب السياسي
تستهل إليزابيث تشيني الحديث عن الاقتراب السياسي قائلة: “نحن ننظر في تشكيل حكومة ديمقراطية في العراق يمكن أن تكون كمثال للمنطقة بأسرها. وحاليا تقوم الولايات المتحدة بالآتي: برامج تدعيم دور الصحفيين المستقلين واتحادات العمال، وتعديل عمليات إدارة الانتخابات، وتدعيم حوار إقليمي عن الديمقراطية لأعضاء المنظمات غير الحكومية والحكومات”.
وتؤكد تشيني أن الأمر يختلف من دولة إلى دولة؛ فكل دولة لها طبيعة خاصة، ومن ثم فلا بد من الاقتراب منها بالطريقة التي تلائمها. فمثلا في دولة مثل البحرين تم تمويل برامج لتدريب النواب المنتخبين الجدد، وتدعيم المركز الوطني الديمقراطي NDI الذي نظم ورشا للعمل تتمحور حول قضايا المرأة، والمشاركة السياسية، والتدريب النُظمي.
وبالنسبة لدور المرأة خاصة فيركز البرنامج الأمريكي على تدريبها في مجالات عدة، مثل: مهارات التواصل، ومهارات تولي القيادة، وتأمين فرص العمل.
وقد برزت الإصلاحات الأمريكية خاصة في مجال القضاء والقانون، وشملت تلك الإصلاحات المساهمة في خلق نظام قضائي أكثر فعالية -كما حدث في البحرين، والمساهمة في عدم تجديد قانون الطوارئ، وفي تطبيق القانون الليبرالي الجديد للمنظمات غير الحكومية -كما هو الحال في مصر، وشملت أيضا تلك الإصلاحات تمويل برامج للإصلاح القضائي، التي يتضمنها سفر القضائيين وتدريبهم على اللغة الإنجليزية، مثل ما حدث في الأردن.
وأخيرا تلخص تشيني قولها: “علينا أن نعمل جميعا بغية وضع نظام تتوافر فيه الشروط المواتية؛ ليعبر المزيد من الأفراد عن آرائهم ويتمكنوا من المشاركة في العملية السياسية.
لذا سنعمل مع بعض المنظمات غير الحكومية بهذا الهدف، ولكننا نعمل كذلك مع الحكومات نفسها ونجري محادثات معها عن أهمية تلك المسائل، وغالبا ما تكون المرة الأولى التي نتحدث فيها معا عن تلك المسائل، لذا فإنها شراكة نحاول فيها المساعدة لدعم التغيير على مستويات مختلفة”.
آفات “البرنامج الديمقراطي”
إن إنزال هذا البرنامج على أرضية الواقع -كما يقول الدكتور حسن نافعة- “لا يعني أبدا أن الانتصار النهائي لنظم الحكم الليبرالية على الطريقة الغربية أصبح نهائيا أو محتما”.
ويعلق الدكتور نافعة هذا الأمر على سببين:
الأول هو أن التجربة الغربية عددها ضئيل وسط دول العالم، بالإضافةإلى حداثة نضجها. والثاني هو أن البيئة الخارجية للمنطقة العربية مختلفة تماما عن البيئة التي أنضجت التجربة الغربية.
كذلك فإنه لم يثبت حتى الآن -والكلام للدكتور نافعة- وجود “أي دراسة إمبريقية جادة حول علاقة ارتباط دائم بين شكل النظام وبين سلوكه وتصرفاته على المسرح الدولي”، فهتلر مثلا وصل إلى رئاسة ألمانيا من خلال مسلك ديمقراطي، ولكنه بعد ذلك اتجه إلى الفاشية والنازية، سواء في داخل بلاده أو خارجها، “غير أن الغرور وحده هو الذي صور للنخبة الحاكمة في الولايات المتحدة أن نموذجها (السياسي الاقتصادي الاجتماعي) هو الذي انتصر، وأن العالم لن يكون بوسعه حل المشكلات ومواجهة التحديات التي تواجهه إلا إذا تبنى هذا النموذج طوعا أو كرها”.
ومثل الدكتور نافعة يستنكر السيد ياسين هذا البرنامج قائلا: “إذا كنا لا نتردد في الموافقة على تشخيص كوندوليزا رايس للحالة العربية الراهنة بأنها تتسم بالافتقار إلى الممارسات الديمقراطية الحقيقية، فإننا نرفض تماما المزاعم الأمريكية في كون هدف الولايات المتحدة هو ترسيخ الديمقراطية في الوطن العربي!”.
ولا يقل خالد الحروب معارضة عمن سبق؛ فهو يصف الوضع الأمريكي الحالي، باعتباره نظاما تحكميا يُدار تحت اسم الديمقراطية، بهدف إجهاض أي تقدم ديمقراطي أصيل. فصارت “مصلحة الأمن القومي الأمريكي” هي الوجهة التي تحدد “السقف” الذي يجب أن يصل إليه الانفتاح السياسي للمجتمعات العربية، وصار هناك “ربط عضوي وتعسفي” بين الشكل السياسي الاجتماعي الذي يجب أن تكون عليه المجتمعات العربية وبين المصلحة الأمريكية العليا؛ وصار مشروع الدمقرطة مدمجا مع مشروع الدعم الأمريكي لإسرائيل.
ملخص القول -كما ينصح الحروب في النهاية- بأن أي مشروع ديمقراطي مقترن بالولايات المتحدة سيخفق في تحقيق الديمقراطية؛ لأنها ستصير مشبوهة، ومن ثم “فإن أفضلخدمة تقدمها الولايات المتحدة للمنطقة هي أن تبقى بعيدة عنها؛ لأن الديمقراطية إذا ولدت بقابلة أمريكية، فإنها ستكون وليدا مشوها مكروها”.
والحقيقة أن ما تحاول فعله الخارجية الأمريكية مع المنطقة العربية، يمثل حلقة متصلة تحت عنوان: “أنا والآخر”. “فواجب الرجل الأبيض” تجاه “العالم المتخلف” موجود منذ الأزل، وله تاريخ طويل.
فهذا الآخر بالنسبة للرجل الأبيض كان يمثل في البداية “الكافر”، ثم صار يمثل “الهمجي”، ثم “المتخلف”، ثم “الشيوعي”، وأخيرا “الإرهابي”. وهو -كما يشير الدكتور علي مزروعي- انتقال من “الديني” إلى “الحضاري” إلى “الاقتصادي” إلى “الأيديولوجي” إلى “الثقافي”.
وما نشهده الآن هو اجتياح عظيم للعولمة الأمريكية (عولمة الثقافة وعولمة الاقتصاد) تحت اسم “البرنامج الديمقراطي”.
وقضية “أنا والآخر” تجلت بوضوح مع ظهور العولمة، ومع ظهور “القوة الرخوة” soft power التي تحدث عنها جوزيف ناي، وأخطر ما في الموضوع هو التصور الأمريكي الحالي، وهو: إن سبب الإرهاب يكمن في جذور الثقافة الإسلامية، والتي يحاولون اقتلاعها واجتثاثها بشتى الطرق، مرة تحت اسم “برنامج الزائر الدولي”، ومرة تحت اسم “مؤتمرات التسامح”، ومرة تحت اسم “الإصلاح القضائي”.
“إن جوهر الخطر في مفهوم التحديث -كما يقول الدكتور سيف الدين عبد الفتاح- هو أنه وليد الحضارة الغربية وخبرتها، وأن محاولة تعديتها ليس إلا حالة من حالات التعدية الفكرية، ويعني أننا لم نتغير من الأعماق إلى الدرجة المطلوبة لملاقاة التحدي.
وفي حقيقة الأمر فالمجتمعات الغربية ليست مثلا أعلى أو وحيدا يقاس التقدم بقدر الاقتراب منه.
إن الذي لا يقتفي أثر خطواتك، ويرفض أن يستمر في السير خلفك، قد تفقد تبعيته لك إلى الأبد، وليس أكثر فعالية في ضمان هذه التبعية من أن تحاول إقناعه باستمرار بأنه ليس هناك هدف أكثر جدارة من أن يحاول اللحاق بك”.
> عن موقع : Islamonline.net