الشهيد عند الله تعالى لا يحتاج إلى اعتراف من أحد


الروح من عند الله تعالى، هو الذي خلقها كما خلق الجسم الإنساني في أحسن صورة {ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}(سورة ألم السجد).

والذي خلق الروح هو الذي له الحق في انتزاعها في الأجل المقدَّر المعلوم، ولا أَحَدَ لَهُ الحق في التعدي على هذه الروح بدون حق شرعي، لا صاحِبُها، ولا إنسان آخر، لأنها ليست من صُنْعِهِ، فلا حَقَّ له في التطاول على صنع رَبِّهِ {ولاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}(سورة الأنعام).

ولكنَّ رب الروح هو الذي رَغَّبَ الإنسان في التضحية بها، وأذِنَ لَهُ في بَذْلها في سبيل الدّين الذي هو رُوحُ الإنسَان وجوهر قِيمَةِ حَياته، عِوَضٌ بِعِوَضٍ، وروح بروح، وحياةٌ بحياةٍ : رُوحٌ تَنْتَقِلُ الى بارئها، برُوحٍ دينيَّة ربّانيّة تسْرِي في الأمّة عمَلاً بالإسلام وجهاداً في سبيله بدون خَوْف مِن طَاغية مهما كان، وحَيَاة دنيويَّةٌ بحياة أخرَويّةٍ خالدَة النَّعِيمِ والتَّكْرِيمِ، وليس للإنْسان في كل تِلْكَ المقايضات والمعاوضات إلاّ فَضْلُ القَصْدِ للْبَذْل في سبيل الله تعالى ودينه، وفَضْلُ الاختيار لمَا رَغَّبه الله تعالى في اختياره، وذلك أيضا بِفَضْلِ الله تعالى الذي هداه ووفَّقَهُ لحسن القصد والاختيار.

ويتجلى الترغيبُ في بذل الروح في سبيل الله تعالى في عدة آيات منها : {ومَالَكُمْ لاَتُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والوِلْدَانِ الذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا…}(سورة النساء)، ويقول : {إِنَّ اللَّه اشْتَرَى مِنَ المُومِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُم الجَنَّة}(سورة التوبة) ويقول : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}(سورة البقرة).

الإِذْنُ من اللّه تعالى ربّ الروح وواهِبِها للإنسان واضِحٌ لا غُبَارَ عليه يَيْقَى الشّكل والكيْفيّة التي تُقَدَّمُ بها هذه الروح فِداءً لدين الله تعالى، فهذا مِمّا لا يمكن أن يُحصر في أشكال بعَيْنِها لأن ذلك يتعدَّدُ ويتنوّع حَسَبَ الظُّرُوفِ، وإنّمَا المُهِمّ أن يَعْتمد على ركيزَتَيْن :

أ- أن يكون الفداء والتضحية في سبيل الله تعالى، إذْ لا يَقْبَلُ اللّه أي عَمَلٍ يَشْترك مَعه فيه غَيْرُه.

ب- أن يحقّق النكاية في العَدُوّ ليشْعُرَ الأعداء أن المسلمين يعشَقُون الموت في سبيل الله كما يَعْشَقُونَ  هم حَياةَ الاسْتكْبار والانغماسِ في الطِّينِ.

ولهذا نجد :

* الغُلامَ المُومِن الذي قال للْمَلِكِ : إنك لَسْتَ بِقَاتِلِي حتى تجمع الناس في صَعِيدٍ واحد، تم تَصْلُبني على جِذْع، ثم تأخذ سَهْماً من كِنَانَتِي، ثم تَرْمِينِي به بَعْد أن تَقُول : >بِاسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلام< ففعَل، فقَتَلَهُ، هذا نوع من الموت في سبيل الله لقاء حياة أمة آمنت بدين رَبِّ الغُلام<آنظر القصة في صحيح مسلم.

* ونجد الحارث بن عوف -في غزوة بدر- يقول : يارسول الله، ما يُضْحِكُ الرَّبَّ من عَبْده؟! فيقول  : >غَمْسُهُ يَدَه في العَدُوِّ حاسِراً< فَنزع الحارث درعا كانت عَلَيْه، فقذفها، ثم أخذ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ القوم حتّى قُتِلَ -انظر الرحيق المختوم 294-.

وهناك أشكال كثيرة لا حاجة لذكرها، فالمُهِمُّ هو أنَّه لَمْ يُسْمع من العلماء الراسِخِينَ في العلم والإيمان أنّهُم خَلَطُوا بين الشَّهَادة والانتحار، إلا في هذا العَصْر الذي أصْبح بَعْضَُ الناس يُفْتِي حسب الطَّلَبِ وحسب الفَهْمِ الاستسلامي الرخيص لأعداء الله تعالى المجاهرين بعداوة الإسلام وأهله بدون هَوَادَةٍ أو مُوَارَبَة أو مراوغة أو إِسرارِ وتَخَفِّ، فَلِمَنْ تُشَوَّه سُمْعَة شهداء ضَحَّواْ بأنفُسِهِم في سبيل الله تعالى؟ للّه؟! فالله لا يَقْبلُ منكم المس بأعراض الشهداء. للشيطان وأوليائه؟؟ هؤلاء لا يُغْنوا عنكم من عذاب الله شيئا.

تَنَازَلُوا ما شئتم، وكَيْفَ شئتم، بعُذر أو بدون عذر، مُكْرَهين أو طائعين، راغبين أم راهبين، فالله أعلم بكم وبنواياكم، وللظروف السياسة تقديرها، وللتمزق العربي والإسلامي اعتباره، وللضعف الإيماني والخَور العَزِيميِّ حِسَابُ، ولكن أبْعِدُوا الدّين عن الساحة، فلا تُشوِّهوا نقَاءه وصفاءه، ولا تُلْصقُوا به ما ليس منه {ولاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ ولكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ}(سورة البقرة).

والحمد لله الذي لم يجعل في الاسلام كَهَنُوتا، ولا رِجاَلاً يوزّعُون الشَّهادة على الناس حسب المقاييس البشرية الضعيفة، ولكن جَعَل قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّهيد من حَقّه هو سبحانه وتعالى فقط. ومن تَقَبَّلَه الله تعالى في الخالدين، هل يَحْتَاجُ إلى اعْتراف أَحَدٍ من المُتَهَاوِينَ المُتَخَاذِلِينَ؟؟

> افتتاحية العدد 49 من المحجة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>