التقى رجلان مسلمان دنيويان في دار صديق لهم يتسم ببعض علامات الصلاح والفهم .
فقال أحدهما : إني لشديد الحب للمال بل أحبّه حباً جماً، ويا ليتني وجدت سبيلاً ليكون معي حتى بعد موتي في ركن من أركان قبري ولكن لا أدري -وقد فكرت كثيراً- كيف أتوصل أو أحقق هذه الأمنية الصعبة المستحيلة في حياتي قبل الرحيل؟
وقال الثاني : أما أنا فأحب الكتب حباً جنونياً غريباً ولي مكتبة غنية عامرة فاخرة زاخرة بالتحف والنوادر والنفائس والفرائد! ويا ليتني كنت أستطيع أن أصحبها معي إلى مثواي الأخير، ذلك لأنني مثلك لا أطيق البعد عنها أو الفراق أو تركها تركة، ليورثها غيري حتى ولو كان من صلب ظهري؛ فإن حبي لها بلغ إلى حدّ العشق التالف والهوس الهالك . فمن يدلني على وسيلة مأمونة لإبقائها معي أينما كنت؟
وكان صاحب الدار ساكتاً كل هذا الوقت يستمع إلى كلامهما العجيب الغريب ويفكر فيهما جاداً لا يصدق أذنيه ولا عينيه، ويسأل نفسه في سرّه قائلاً : أهما مجنونان أم عاقلان؟ إلاّ أنه سرعان ما انتبه وعاد إلى وضعه الطبيعي وقد سألاه بلسان واحد قائلين :
- يا صاحبنا الساكت المعروف بالعقل والحكمة والفهم والخبرة! هل لك أن تسعفنا بحل أو علاج أو طريقة؟
وهنا -وقد جاءت الفرصة المناسبة للكلام والنصح والبيان، وقد ألهمه الله لهما حّلاً رائعاً وطريقة مثلى وعلاجاً شافياً كافياً لما كان يرجوانه بل ويطلبانه بإلحاح وقلق؛ فقال لهما- بعد تفكير خاطف وكأنه كان جواباً مستحضراً كالدواء الناقع الفاقع : أجل، أجل ياصاحبّى الكريمين العزيزين . إن لدي حلاً عظيماً، وعلاجاً قاطعاً وطريقة مضمونة لما يهمانكما حول مصير المال والكتب بعد موتكما كما تزعمان، فقالا بلهفة وتطلّع وبصوت واحد : وما هو؟ وكيف؟ ألا تكلمت؟ ألا أفصحت؟
قال صديقهما الناصح الأمين بهدوء ورزانة وعلى بساطته وبراءته : إن كنتما يا صديقيّ، صادقين حقاً في إبقاء متاعكما الدنيوي المحبوب محفوظاً وباقياً لكما ومعكما حتى بعد زوالكما كما تقولان، فليبع إذن كلٌ كل ما عنده مما يحبه مفتوناً به هذه الفتنة، إلى الله الغني الحافظ الأمين، وهو أقوى الأقوياء وأرحم الراحمين يدخرهما لكما عنده ليومه الموعود كما تريدان!
فنظرا إلى بعضهما نظرات ذات معانٍ ومغازٍ، ثم قالا : حقاً كيف فاتتنا هذه الحقيقة؟ بل هذا الحل الإيماني والعلاج الجذري، والطريقة السليمة المأمونة مئة با لمئة، بل مئة بالألف وزيادة! أليس كل شيء يزول ويفنى وينسل ويضمحل؟ ثم لا يبقى لك شيء غير حفنة من تراب، وخرقة من قماش غير مخيط غالباً لتسكن وحدك في ظلمات اللحد الضيق الموحش، ما لم تتداركنا الرحمة الإلهية بفضله وإحسانه؟
فقال صاحب الدار اللبيب البار : إذا كنتما تعلمان هذه الحقيقة السافرة تمام العالم والحق واليقين،فلماذا إذن تترددان في بيعهما لربكما الكريم الحفيظ القوي الأمين ا لحيّ القيوم؟!
فقالا بعزم أكيد ونية صالحة : أشهد أنت يا صاحبنا، فلقد بعناهما من هذه اللحظة -إلاّ ما يسدّ الحاجة الضرورية للحياة – لله رب العالمين .. وسنصرفهما غداً للفقراء والمساكين والمحتاجين من ذوي القربى والغرباء سواء بسواء .
فقال صديقهما المندهش جداً وهو لا يكاد يصدّق ما يسمع وما يرى؛ بارك الله فيكما . واْطَمِئَِّنا بصفقتكما الرابحة وزيادة . ومن أصدق من الله حديثاً أو أقوم قيلاً؟
فأبشرا ببيعكما!
وخرج الرجلان من دار صديقهما الصالح، وهما يخطوان على عتبة دار الآخرة بنعليهما منذ الساعة بسعادة لا توصف ولا تترد.
والحمد لله على نعمة الهداية : اكبر و أخلد رأسمال الإنسان في الأرض .