والله متم نوره ولو كره الكافرون


من الحقائق التي لا يتجادل فيها اثنان أن الإسلام كان -وما يزال- هدفا كبيرا لمختلف الحركات والسياسات والايديولوجيات العقدية المعادية، التي تسعى برمتها إلى تقويض أسسه وتجفيف منابعه بما يحقق الخلل في تدين المسلمين، ويشوه صورته في الأذهان، ويبذل رسالة الرحمة والعدل والإخاء والحرية والتكافل والمساواة والآدمية التي ينص عليها، ويحث المسلمين على تنزيلها على واقعهم.

وقد ازدادت حدة مواجهة الاسلام في العقود الأخيرة بشكل خطير، خاصة وقد عرف تاريخ التدين المعاصر صحوة باتجاه الاسلام، لا من قبل المسلمين فقط، وإنما من قبل غيرهم من العالمين كذلك؛ ولعل هذا ما يشهد له واقع الصحوة ودخول الكثير من الغربيين في دين الله بعدما ضاقت بهم حياة المادة، واضطربت بفعل المدنية المعاصرة سلوكات الناس، وعرفوا من تم أن الاسلام يحمل بداخله خلاص البشرية جمعاء من القلق والتيه ومختلف الأمراض النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

في ظل هذا الواقع المشحون بالحقد والعدوان، عدت رموز الانتماء للإسلام، من لحية وحجاب على وجه الخصوص، شكلا من أشكال التطرف الديني المعادي للحضارة المعاصرة، فأصبحنا نسمع مصطلحات وعبارات مستمدة من قاموس أحكام القيمة التي رسختها الثقافة الغربية عبر وسائل الإعلام في أذهان الناس، ليصبح -خلالها- كل ملتزم وملتزمة بدين الله تعالى، متطرفا ومتطرفة، وإرهابيا وإرهابية؛ تجاوزنا خلالها عتبة الاتهام بالتخلف والهمجية وأعداء المدنية : وقد ازداد هذا النوع من المواقف حدة بعد انفجارات الحادي عشر من شتنبر؛ وأضحى كل انفجار أو مقاومة من قبل أصحاب الحق إرهابا، والخطير في هذا أن التهمة أصبحت توجه مسبقا للمسلمين، وخاصة منهم العرب.

إننا نعرف جميعا أن الحرب على الاسلام والمسلمين هو شعار الألفية الثالثة، ونعرف كذلك الأسباب الحقيقية التي دفعت، وتدفع مؤسسات القرار السياسي الدولي إلى إشعال فتيل نار هذه الحرب، فمناداة الاسلام بالحرية الحقيقية للانسان، ودفاعه عن العدالة الحقة المكرمة له، وصراعه ضد كل أشكال الاحتكار والربا، كان كفيلا بإفراز سياسة حرب الحضارات والثقافات، سواء في شكل حروب عسكرية أو ثقافية أو اقتصادية؛ وذلك بهدف احتواء هذا الدين، احتواء يخفف من وجوده في عقر ديارهم، خاصة ونحن نعرف جيدا أنهم متيقنون من خطر الاسلام على عقائدهم وفلسفاتهم في الحياة، بل ويرهبهم سماع عبارات من مثل : المستقبل للإسلام.

وفي حقيقة الأمر، وهذا مما يثلج الصدور، أن الكثير من الغيورين على الإسلام، وقفوا صامدين ضد (الحرب المقدسة الجديدة)، المدعمة هذه المرة بأسلحة الإعلام المختلفة؛ فلا تكاد مناسبة مواتية تمر إلا ويتجند واحد أو واحدة من أبناء المسلمين، هنا أو هناك، للرد على هجوم أعداء الدين بالأدلة الثقيلة والبراهين العقلية؛ فشكلوا بهذا الفعل جبهة الدفاع عن الحق والنور، مبينين للناس كافة أن الاسلام دين الرحمة والعدل والحب والسلام، لا دين القتل والهمجية والبربرية.

إن المتتبع لمجريات التاريخ الحاضر، سيلاحظ أن الدين الاسلامي وموضوع الارهاب كانا عناوين بارزة هذه السنوات الأخيرة بشكل مثير، وهو ما دفع بالعديد من الحيارى من طبقة المثقفين والسياسيين والعلماء إلى خوض معركة معرفة هذا الاسلام من خلال ما يقدمه هو، لا من خلال ما يقدمه القلم الغربي عن الاسلام، وقد أدت الجمعيات الثقافية والعلمية المسلمة في الغرب مهمة محمودة في التعريف بهذا الدين وتصحيح صورته في الأذهان. بل ويمكننا القول في هذا المقام : إن تشديد الغرب على المسلمين فجر أسئلة المعرفة لدى الغربيين، فانقلب السحر على الساحر. وعوض النفور من هذا الدين، ازدادت بحمد الله وفضله فئات معتنقيه والمهتدين بهديه، ليصدقكلام الله الصادق على الداوم : {والله متم نوره ولو كره الكافرون}.

وإن ما يحدث في أوربا هذه الأيام، وخاصة في فرنسا، لأكبر دليل على ما نقول. فالضجة التي ابتدعوها حول الحجاب في علاقته بالمؤسسات التعليمية أحدثت ردة فعل قوية من قبل المجتمع المؤمن بحرية الاعتقاد بكل ما يحمله هذا الأخير من ممارسة تعبدية وسلوك يومي، بل وأظهر -وهذا هو الأهم- أن دولة الثورة الفرنسية لا تحترم شعاراتها، حينما يتعلق الأمر بالاسلام والمسلمين، فكانت مهاجمة تلك النخبة من النساء والفتيات الطيبات دليلا على هاجس الخوف من صحوة الغرب برمته؛ خاصة سياسته تتجه إلى تجفيف منابع تدين المرأة المسلمة في بلاد العرب والمسلمين، لكنها بالمقابل تجد نفسها أمام صحوة دينية بداخل عقر دارها؛ وهذا هو السحر الذي انقلب على الساحر.

إن المشكلة ليست في الحجاب، كما يريد إعلامهم تصوير ذلك، وإلا فما الفرق بين زي المحتجبة وزي الراهبة. قد يتساويان في الشكل بستر الرأس وباقي الجسد، ولكن الاختلاف شاسع جدا. إنه نمط الحياة الذي يخفيه الثوب عند كل منهما، وأسلوب التواصل مع الآخرين كما تنميه، بداخل وعي كل منهما، العقيدة والشريعة.

إننا نعلم -في الختام- أن الحرب على الاسلام جزء من الحرب على الإرهاب في السياسة الغربية المعاصرة؛ لكننا بالمقابل نعلم علم اليقين أن هذه الحرب مهما تسلحت بآليات الغزو والحصار والتقتيل ـ لن تكون أشد على المسلمين من حروب سابقة منذ العهد المكي، خرج منها الاسلام منتصرا لا بأفراده فقط، وإنما بما يحمله للإنسانية جمعاء من قيم الآدمية وكرامة الإنسان وحريته. ويا ليت المعادين لهذا الدين ـ من مختلف الايديولوجيات ـ يراجعون تاريخ الاسلام والمسلمين، ليعرفوا معرفة اليقين ما مدلول قوله تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>