مكون الإنشاء في كتاب المفيد بين الكائن والممكن


ظلت رقاب رجال التربية والتعليم، برهة من الزمن، مشدودة إلى الإصلاح الجديد الذي طال الكتاب المدرسي للسنة الأولى إعدادي، متطلعين إلى ما سيسفر عنه الإصدار الجديد، والكل يَحْدوه الأمل في أن يحقق الإفادة المرجوة، فتتحسن، تبعا لذلك، مردودية التلاميذ وترتقي لغة الضاد على ألسنتهم. لكنه لم يحصل شيئ مما ارتقبوه، وما حصل، بالفعل، أنه تم إخراج كتاب جديد جامع أنيق يسر الناظرين وما عدا ذلك، وإذا ما عكفت على فحصه والتدقيق في وحداته، لم تجد سوى تغييرات لم تجدف بعيدا، ولم تبحر في العمق، وانشغلت بالشكل دون المضمون، وبالعرض دون الجوهر. ومن هنا، فالتغيير الحاصل لم يمس اللب، لأنه بكل يسر، لم يمس العلة وراء تردي مستوى تلامذتنا، ولم يلامس أسباب ضعف قدراتهم التعبيرية، وعجزهم عن الإبداع بمختلف أشكاله.

ولعل التغيير البادي للعيان اقتصر على مكون الإنشاء فحسب، فتم ضبطه أخيرا، وتقنينه بمهارات معينة، بعضها مما كان يتطلع إليه المربون ويحلمون بإنجازه كجريدة القسم والتوثيق مثلا. وبعضها زاد الطين بلة، وضيق الخناق، تارة أخرى، على ناشئتنا كمهارة تفسير فكرة أو قولة أو مقطع شعري أو موقف إنساني.

وأرى أن التفسير أو التوسيع درجة أعلى من وصف المحسوس، وسرد الملحوظ، يحتاج إلى قوة ذهنية تركيبية ينبغي أن تنطوي عليها ذوات متعلمينا، ويعتمد على كثرة إعمال الفكر، وتقليب النظر. وهي تقنية أقرب إلى المقابلة والخطبة منها إلى أي جنس أدبي آخر. ولا يخفى ما يحتاج إليه الخطيب أو كاتب المقالة من جهد مضن لتكثيف معلوماته، وتخليص الأهم منها والأقل أهمية، وحرصه الشديد على بسطها حتى تتمكن من استيعابها فهوم المتلقين. فلا ينبغي لها أن تفوق مداركهم، ولا أ ن تكون مبتذلة تشوش على ذائقتهم.

فهل التلميذ مستطيع، بعد الذي ذكرناه، أن يقوم بتلك الأمور مجتمعة وفي آن واحد؟ وهل التلميذ الذي يتخبط خبط عشواء في أخطائه الإملائية قادر على أن يوسع الأفكار والأقوال ويفسرها؟ وأنى له بالأفكار ليصبها في ذلك القالب الجاهز(مهارة التفسير)؟ ألا يكون حسنا ومجديا أن نعلمه، مثلا، مهارة الوصف، ومهارة كتابة القصة؟ أفليست هي أقرب إلى محسوساته ومداركه؟ ألم يؤكد علم النفس التربوي، أن طفل هذه المرحلة، لم تزل، بعد مداركه العقلية والمنطقية ـ وليس التخييلية ـ بعيدة عن التجريد والسباحة في فضاءات هلامية لا بداية لها ولا نهاية؟ ألا يكفي أنه يعاني الأمرين في تركيز فكره وتثبيت ذهنه في مواد مجردة كقواعد اللغة والرياضيات؟

أضف إلى ذلك كله، أن التصحيح لم يعد يأبه لمخاطر الأخطاء الواردة فيه من قبيل الأغلاط اللغوية والصرفية والإملائية، بقدر ما أصبح يهدف إلى تقويم “المهارة”، ومدى استيعاب التلميذ لها، وإحاطته بجميع عناصرها، ونجاحه، أخيرا، في تطبيقها. فهل الزاد المعرفي والفكري للتلميذ يخول له أن يبلور تلك المهارة أم أن هزالة فكره تتصدر المعيقات لتفتح المجال رحبا أمام أخطاء إملائية وتركيبية ولغوية وصرفية وهلم جرا؟

إن الإنشاء ينبغي أن يكون فسحة يرتاد التلميذ ظلالها، ويقيل بها سويعة يروح بها عن نفسه، ويتحرر من القيود والمكبلات لينطلق لسانه معبرا بحرية، بعيدا عن الانقباض والخوف.

ولهذا أرى أنه من الأحسن، أن ترجأ هذه المهارة إلى مستوى لاحق، ولتكن الثالثة إعدادي، حيث المدارك العقلية والمنطقية للتلميذ، قد نمت بشكل يسمح له أن يرى الأشياء المجردة، وأن يحسها بعقله وقلبه معا.

ذ. محمد بن الصديق

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>