إن موضوع تربية الأولاد من أعظم المسؤوليات التي يُحَمِّلها الله تعالى ورسوله المؤمنين ويحاسبهم عليها يوم القيامة >كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته…<(متفق عليه.).
ويقول تعالى : {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة}.
الوقاية من النار لا تكون إلا من خلال تربية متكاملة تصدر عن الإسلام الحق كما أنزله الله تعالى، أما أن يخلق الله تعالى وتصدر المناهج من غير شريعته فذلك ضلال وانحراف يترتب عليه عدم تحقيق التوازن في حياة الإنسان، فالمربي الحق على الإطلاق هو الله تعالى لأنه هو الخالق، خالق الفطرة وواهب المواهب وهو الذي سن سننا لنموها وتدرجها وتفاعلها كما أنه شرع شرعا لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها. ثم إن التربية لابد أن تستضيء بنور الشريعة الإلهية وتسير وفق أحكامها وهي عملية هادفة لها أغراضها وأهدافها وتقتضي خططا متدرجة يترتب بعضها على بعض وينبني بعضها على بعض فكل منها قائم على ما سبق ويعد لما بعده. وعمل المربي تال وتابع لخلق الله وإيجاده كما أنه تابع لشرع الله ودينه وأحكامه.
والإسلام يسعى من وراء كل ذلك إلى بناء تكوين الإنسان العالم والفعال، الذي يكون حقيق بخلافة الله في الأرض يبني ويشيد ويعمر الأرض التي استخلفه الله فيها انطلاقا من أسرته الصغيرة وانتهاء بمجتمعه الكبير : المجتمع الإنساني.
فالبنون من نعم الله التي ينعم بها على من يشاء من عباده وقد لفتنا الله إلى هذه النعمة في كتابه الكريم فقال عز وجل : {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين}(الشعراء : 122) كما بين سبحانه أنهم من زينة الحياة الدنيا فقال : {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}(الكهف : 46). والسعيد حقا من رزقه الله سبحانه ذرية صالحة. وأخبرنا سبحانه عن اشتياق عدد من الأنبياء والمرسلين للذرية الصالحة كما في قصة إبراهيم وزكرياء عليهما السلام.
والعبد المؤمن الذي رزقه الله الذرية يحرص أن يربيها على الإسلام ويقوم على تنشئتها تنشئة صالحة حتى يكون شاكرا لتلك النعمة، ومما يرغب الوالدين في تربية الأبناء تربية الخير والصلاح أن من عاش بعد موت والديه نفعهما بالدعاء مصداقا لقول الرسول : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له” رواه مسلم. ومن مات منهم صغيرا نفع والديه يوم القيامة بإدخالهما الجنة كما ورد في الحديث : عن أبي حسان قال : توفي ابنان لي فقلت لأبي هريرة سمعت من رسول الله حديثا تحدثناه تطيب أنفسنا عن موتانا فقال : نعم “صغارهم دعاميص الجنة يلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بناحية ثوبه أو يده كما آخذ بصيغة ثوبك فلا يفارقه حتى يدخله الله وأباه الجنة” رواه مسلم. الدعاميص : صغار أهل الجنة.
فمن أظهر المسؤوليات التي اهتم الإسلام بها وحض عليها ووجه الأنظار إليها مسؤولية المربين اتجاه من لهم في أعناقهم حق التربية والتوجيه والتعليم، فهي في الحقيقة مسؤولية كبيرة وشاقة وهامة في آن واحد… تبدأ قبل ميلاد الطفل وتستمر بعد الميلاد متدرجة مع المولود في فترات الحضانة والتمييز والمراهقة إلى أن يصبح بالغا مكلفا. ولا شك أن المربي سواء كان أبا أو أما أو معلما أو مشرفا اجتماعيا حين يقوم بالمسؤولية كاملة ويؤدي الحقوق بكل أمانة وعزم ومضاء على الوجه الذي يطلبه الإسلام، يكون قد بذل قصارى جهده في تنشئة العنصر الصالح أو اللبنة الصالحة في تكوين الأسرة الصالحة والمجتمع الصالح.
نعم شرع الإسلام مسؤولية الآباء عن الأبناء قبل الميلاد فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم” رواه ابن ماجة وهو حديث حسن. ووردت الأحاديث التي تحث على اختيار الزوجين على أساس الدين والأخلاق، فعن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >أذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض<(رواه ابن ماجة وهو حديث حسن).
كما أوجب الإسلام العناية بالجنين في رحم الأم، فحرم الإيذاء أو إلحاق الضرر به بأي شكل من الأشكال فقد ورد من طريق عبيد الله عن نافع قال : “كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش وكانت حاملا فأصابها عطش في رمضان فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينا” أخرجه الطبري في تفسيره، وعن معاذ بن جبل ] قال : >والحامل والمرضع إذا خافتا على أولاد هما أفطرتا وأطعمتا< سنن أبي داود، كما حرم الإسلام الإجهاض إلا في حالات استثنائية فصل الفقهاء في بيانها. إن من العقبات التي تعترض كثيرا من المربين : الافتقاد إلى مناهج تربوية عملية تحيط بواقع الطفل المعيش فتنطلق منه لتسوغ المنهج الصائب الذي يؤتي أكله بإذن ربه فلا يكفي استعراض الفضائل الخلقية والتدليل على أهميتها من آيات وأحاديث نبوية، مما يجعل المربي في حيرة من أمره لا يدري كيف يغرس هذه الفضائل عند ولده، فالمطلوب هو دراسة منهجية تتعرض إلى كيف نوجد هذه الفضائل بحكمة وروية وبدون تعسف ولجوء إلى العنف مما يعطي نتائج عكسية يستحيل أحيانا إصلاحها وتداركها.
سنحاول إذن بتوفيق من الله تعالى أن نتعرض إلى كيفية غرس بعض الفضائل لدى أبنائنا بتدرج بمراعاة سن كل مرحلة مرحلة إذ لكل واحدة خصائصها المتميزة التي يجب مراعاتها ومنحها ما تستحق من عناية تخصها.
وقبل هذا لا بد من وقفة نحدد من خلالها المصطلحات إذ باستقراء كثير من المجلات والكتب التي ترد فيها كتابات عن التربية والتعليم نجد أن كثيرا من الكتاب يخلطون بين مصطلح التربية ومصطلح التعليم، فبالرجوع إلى معاجم اللغة العربية نجد أن :
رباه : بمعنى غذاه ونشأه ونمى قواه الجسدية والعقلية والخلقية
تربى : بمعنى تنشأ وتغذى وتثقف.
ورب يرب أصلحه وتولى أمره وساسه وقام عليه ورعاه.
وقد أقر مجمع اللغة العربية في مصر التعريف التالي : التربية هي تبليغ الشيء إلى كماله أو هي كما يقول المحدثون : تنمية الوظائف النفسية بالتمرين حتى تبلغ كمالها شيئا فشيئا.
تقول : ربيت الولد إذا قويت ملكاته ونميت قدراته وهذبت سلوكه حتى أصبح صالحا للحياة في بيئة معينة. وتقول تربى الرجل إذا أحكمته التجارب ونشَّأ نفسه بنفسه، ومن شروط التربية الصحيحة أن تنمي شخصية الطفل من الناحية الجسمية والعقلية والخلقية حتى يصبح قادرا على مؤالفة الطبيعة وتجاوز ذاته ويعمل على إسعاد نفسه وإسعاد الناس وتعد التربية ظاهرة اجتماعية تخضع لما تخضع له الظواهر الأخرى.وبالرجوع إلى كتب التفسير نجد أن أكثرها قد تعرضت لشرح وبيان معنى التربية عند تفسير لفظة (الرب) وسنكتفي باقتباس بعض ما ورد في ثلاثة كتب منها . قال القرطبي رحمه الله : التربية هي إصلاح شؤون الغير ورعاية أمره.
قال العلامة الألوسي رحمه الله : التربية هي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزلي شيئا فشيئا… والتربية أَجَلُّ النِّعم بالنسبة إلى المُنْعَمِ عليه وأَدَلُّ على كمال فِعْله تعالى وقدرته وحكمته.
قال الشيخ الدوسري رحمه الله : رب العالمين سيدهم المربي لهم الذي رباهم بنعمته :
- تربية خلقية يكون بها نموهم وكمال إحساسهم وقواهم النفسية والعقلية.
- تربية هداية فطرية لكل نفس ما يلائمها من طلب نفع أو مكافحة ضرر.
- تربية هداية شرعية لأهل الإدراك منهم لما يسعدهم في دنياهم وأخراهم وذلك بما يوحيه إلى أفراد منهم بدينه القويم وتشريعه النافع.
- تربية معيشة بتسخيره لهم كل دابة ومادة وتيسير أرزاقهم حسب تقديره الأزلي وإنعامه عليهم بالنعم التي لا يمكن البقاء بدونها.