تسمى الفترة الدّعوية الأولى بفترة الدعوة السرية إما لإخفاء الدّعوة للدين الجديد عن العموم بصفة عامة، حيث كانت تعرض على خاصة الناس من الأقربين وأهل الثقة، وإمّا لتكتُّم المستجيبين لها بتوجيه من الرسول ، وإما لتَلقِّي التربية والتكوين في أماكن خاصة خافية عن الأنظار.
والذي يظهر أن كل ذلك كان، فكما كان المسلمون في المرحلة يستخفون في الشعاب لأداء الصلاة فكذلك، كانوا يلتقون بالرسول في خفية عن القوم، وفي سرية تامة، سواء في :
أ- دار الرسول : حيث كان يقصده المستجيبون ليتعلّموا، أو ليُسلموا، أو يقصده السامعون به ليستوضحوا الأمر الذي كان ينتهي بإعلان الإسلام، كما كان الأمر مع أبي ذر وغيره، فدار الرسول كانت أول مدرسة للتربية والتعليم والتزكية.
ب- الخروج إلى الكهوف والمغارات : يدل على ذلك ما رواه البخاري في ذكر المكان الذينزلت فيه سورة “والمرسلات” فقد قال بسنده عن عبد الله بن مسعود ] قال : >بيْنَما نحْنُ مع رسول الله في غَارٍ بِمنًى، إذ نزَلَتْ عليه “والمرسلات” فإنّهُ لَيَتْلُوها، وإنّي لأتَلقّاها مِن فيه، وإن فَاهُ لرَطْبٌ بها، إذْ وثبَتْ علينَا حَيَّةٌ، فقال النبي >اقْتُلوها< فابتدَرْناها، فذَهبتْ، فقال النبي >وُقِيَتْ شرَّكُمْ كما وُقِيتُم شرَّها<(1).
واضح من النص أن ابن مسعود كان مع جماعة في الغار يتلقّون من رسول الله وهذا الغار بمنًى، ومنًى بعيدة عن الأعيُن والرقباء.
حـ- دار الأرقم بن أبي الأرقم : التي كان الدخول إليها إثر حادثة التقاتل الذي وقع بين المسلمين ونفر من المشركين الذين عابوا على المسلمين صلاتهم، وشَجَّ فيها سعدُ بن أبي وقاص رجلاً من المشركين، فأشار الرسول على المسلمين بالدخول لدار الأرقم تجنُّباً للتصادم الذي لا خير فيه للدّعوة في هذه الفترة، فأصبحت الدار مسجداً ومدرسة للعبادة والتربية والتعليم(2).
إذن فمفهوم السرية في هذه الفترة تعني : أن الدّعوة كانت تُعرض على أهل الثقة، ومَنْ قبِلَها كان يلتقي بالرسول وأصحابه في سرية تامة، كما كان التعبد بشعائرها يؤدى في سِرِّيَّةٍ تامة أيضا.
ولكن ليس معنى هذا أن الدّعوة كانت سرية أي غير معروفة نهائيا، فهذا يكذبه الواقع الذي نجد فيه الكثير من الروايات والمظاهر الدالة على أن مكة كلها كانت على علم بأن محمداً يكلَّمُ من السماء، من ذلك :
< حديث ورقة الثابت في الصحيح، حيث قال للنبي : هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى عليه السلام.
< رؤية الرسول وهو يؤدي الصلاة عمليا، فقد روى الإمام أحمد عن اسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي قال : كنت امرَأ تاجراً، فقدمت الحج، فأتيتُ العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة؛ فوالله إني لعنده بمِنىً إذْ خرج رجُلٌ من خباء قريب منه،فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت قام يصلي، ثم خرجت من ذلك الخباء امرأة فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام حين راهق الحُلُم من ذلك الخباء، فقام معه يصلي، فقلتُ للعباس : من هذا يا عباس؟قال : هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي. قلتُ من هذه المرأة؟؟ هذه امرأته خديجة بنت خويلد، قلتُ : من الفتى؟ قال : علي بن أبي طالب ابنُ عمّه. فقلت : فما هذا الذي يصنع؟ قال : يُصلّي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعْه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه يُفْتَحُ عليه كنوز كسرى وقيصر. قال : فكان عفيف يقول : -وهو ابن عم الأشعث بن قيس- لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ فأكون ثالثا مع علي بن أبي طالب(3).
< ثم الاشتباك الذي وقع مع سعد في الشعاب، وموقف أُمِّه منه، وموقف الكثير من رؤساء الأسر من بعض أفرادهم الذين اختاروا الإسلام، الأمر الذي يدل على أن الدّعوة الإسلامية كانت معروفة واضحة، ولكن العمل لها هو الذي كان سراً. وذلك -كما يقول رؤوف شلبي- >منهج معروف في قواعد العمل مع الجماعة في العصر الحديث، وذلك ما تحتاجه الدّعوة في الظروف المعاصرة< وزاد قائلا : >فليس من الجيد علميا أن يقال : سرية الدّعوة، فإن الحق الذي سجله التاريخ هو وضوح الدعوة واشتهارها، وسرية العمل لها إعداداً للقيادة، وتربية لهم ليحملوا مع الداعية وظيفة العمل عند الصدع بها عامة، والجهر بها للناس كافة<(4).
ولعل هذا ما يشير إليه محمد الغزالي رحمه الله تعالى عندما قال : >وترَامَتْ الأنباء إلى قريش فلم تُعِرْها اهتماما، ولعلها حسبت محمداً أحد أولئك الدَّيّانين الذين يتكلمون في الألوهية وحقوقها كما صنع أمية بن الصّلت، وقُسُّ بن ساعِدَة، وعمْرُو بنُ نفيل وأشباهُهُمْ، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره، وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته<(5).
——–
1- تفسير ابن كثير 553/4.
2- انظر السيرة الحلبية 319/1، والدّعوة الإسلامية في عهدها المكي ص : 210.
3- انظر الأساس في السنة -السيرة 218/1.
4- الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ص : 213.
5- فقه السيرة ص : 100.