فكر إسلامي – من دلالات وأسس التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر(*)


سأحاول في هذه المداخلة أن أطرح من الأسئلة أكثر مما أجيب، أسئلة أوراش عمل لنا جميعا وللطلبة الباحثين، إن الفكر الإسلامي في حاجة إلى استدراك لما فات ومواكبة لما هو حاضر وآت، قصد تحقيق الحضور الثقافي الكوني للأمة والشهادة الحضارية والدينية على الناس.

إذا جاز تقسيم مراحل الفكر الإسلامي إلى ثلاث محطات أساسية، تكون الأولى هي محطة” البناء والتأسيس ” للفكر والإنسان والمجتمع حيث كان التفاعل مع الوحي في أعلى صوره وحيث كان الاجتهاد بما هو استفراغ  للوسع وبذل للجهد ديدن المجتمع، بأكمله في العادة والعبادة، بين العلماء والفقهاء استنباطا، ومن العامة والجمهور تعلما وعملا إلى عهد الأئمة الفقهاء المؤسسين، ولم تكن الخلافات الطارئة لتؤثر في عضد وحدة الفكر والمجتمع القوي.

أما المحطة الثانية فقد عرفت تراجعا وبداية أفول من القرن الرابع الهجري على أكثر تقدير، لما أخذت مصادر وأصول هذا الفكر تتغير مواقعها، حيث بدأت ساحات تأثير الوحي تتقلص ومساحات الفكر الكلامي الجدلي تتسع، وحركة الفكر الاجتهادي التجديدي تتقلص وحركة الجمود على الآثار والأقوال والتقليد الذي وجه ثقافة الأمة إلى الآن تنتشر، وتم الانحياز عن فلسفة الشورى أساس العدل في الحكم وتنحى الفقه العملي، وانفصل عن حركة الواقع، وغير ذلك من العوامل التي أنتجت عللا فكرية خطيرة كالجبر والإرجاء والتعطيل والجمود والتواكلية والتقليد وغيرها.

أما المحطة الثالثة فهي التي واكبت حركة الاستعمار الحديثة التي عرفت أشكالا من الغزو المركز للقيم والمبادئ والفلسفات والأفكار والنظم الاقتصادية والسياسية والتعليمية والفنية وغيرها، مؤطرة بفلسفة علمانية اجتاحت الغرب منذ عصر النهضة حيث شاعت في عالمنا بفضل التبعية والغلبة، مظاهر أخطرمن تلك التي عرفها تاريخنا القديم تتجلى في العلمانية الجزئية والشاملة والسيول الحضاري، والإجهاز على القيم والثوابت والمطلقات ونزع القداسة والمعيارية عن كل شيء، والفكر الاستهلاكي الموجه للذة والمتعة الذي ينزع عن الإنسان طاقاته الإبداعية التجديدية ويقتل فيه حس النقد والمقاومة، وغير ذلك مما اختصره مالك بن نبي رحمه الله في تسمية هذه المرحلة بمرحلة الغزيرة، ولا يخفى أن هذا التحدي الاستعماري وَلَّدَ في الأمة يقضة ضمير وصحوة ذهن يعبر عنها الفكر التجديدي المعاصر في صور وأشكال مختلفة   أحدثت التبعية تيارا عرف بالانهيار والتبعية لا يرى التجديد والتحديث إلا في نماذج هذا الغرب في صوره المختلفة، وحسبنا أن نقف في هذه المعالجة على بعض دلالات وأسس التجديد في فكرنا المعاصر منبهين إلى مواطن القصور فيها وعلى بعض الدعاوى المنتحلة له وذلك من خلال محورين اثنين، المحور الأول : التجديد الأسس والدلالات، المحور الثاني: التجديد إمكان ذاتي لا خارجي قراءات خارج النسق.

أولا: التجديد: أسس ودلالات، أعتقد أن دارسي المفهوم في العالم الإسلامي ينبغي لهم أن يتحققوا فعلا بالشرط الإسلامي وأن ينطلقوا ابتداء من القرآن الكريم أساس هذا الدين،  التجديد في القرآن الكريم لم يستعمل في معناه الأصلي الدال على جَدَّ بمعنى القطع، وإنما بمعنى الصيغة التي تدل على الجديد والمحدث، ورد خمس مرات “خلقا جديدا” ابراهيم، وورد مرتين “خلقا جديدا” في سورة الإسراء، وممن نبه على هذا الاستعمال للفظ القرآني على غير أصله اللغوي الراغب الأصفهاني، فبعد ذكره لأصل الجد بمعنى القطع قال : “ثم جُعل -أي اللفظ- لكل ما أنشئ إحداثه. قال تعالى: {بل هم في لبس من خلق جديد} إشارة إلى النشأة الثانية، ومن المتأخرين: ابن عاشور الذي قال في قوله تعالى: {إنكم لفي خلق جديد} الحديد: الحديث الوجود في خلق غير الخلق الأول الذي أبلاه الزمن، فجديد فعيل من جد بمعنى قطع ثم اتسع ذلك فسار الجديد وقف بمعنى  حديث العهد، ثم تُنُوسِي معنى  المفعولية فسار وصف بمعنى الفاعلية فيقال جد الثوب بالقطع بمعنى كان حديث العهد بنسيج القرآن الكريم في استعماله جدد في الدلالة  على  الجديد كاستعماله لجَهَدَ للدلالة على  بذل الجهد من حيث عدم حصره لهما بمعنى  أو حكم محدد، فالدلالة الاستيعابية للمفهوم كبيرة جدا وواسعة جدا. هذا في الوقت الذي نجد فيه السنة تنحو إلى شيء من ضبط هذه المعاني ضبطا توجيهيا إرشاديا لا ضبطا تقنينيا حصريا، ففي السنة النبوية نجد استعمالات أوسع للفظ في مجالات مختلفة تستوعب تقريبا جل المعاني الواردة في لسان العرب وفي القرآن الكريم، ويهمنا منها أساسا حديث الباب الشامل المتعلق بتجديد الدين الوارد في سنن أبي داود.

أبرز من تناول الحديث من المتقدمين بالشرح عبد الرؤوف المناوي في: “قبض القدير شرح الجامع الصغير” حيث جمع طائفة من الأقوال تكاد تنحصر في كون دلالة “يجدد لها دينها” أي يبين السنة من البدعة، ويحيي ما اندرس من العالم من الكتاب والسنة، أي كون التجديد بناء وإحياء، مستندا إلى أصل ينفي عنه الطارئ والزائد لإظهار ما خفي واستتر منه، وهي إشارة تفيد أن من أهم دلالات التجديد أنه ليس انفصالا أو تحررا عن الأصول، ولا هو اكتشافا لشيء غير مسبوق وعلى غير مثال، والحديث يكثر ربطه في أن المجدد إنما يجدد لها دينها الموجود لها أصلا، دينها بتجديد الفهم والإدراك وإبصار الآيات والأحكام، أو تدينها كما يذهب البعض التزاما وتنزيلا وعملا وتطبيقا.

لكن السؤال الكبير المتوجه هنا هو ألا يمكن للتجديد أن يكون منشئا لا فقط مبينا ومحييا، على مقتضى الأصول والكليات والمقاصد خاصة إذا اعتبرنا أن المجدد يجتهد بالضرورة أي مستجمع لذات الشروط التي يجب توفرها في المجتهد، وإذا اعتبرنا أيضا النوازل والمستجدات الطارئة في مجالات الحياة التي لم يكن لها مثال تقاس عليه؟ واعتبرنا كذلك أن حلول هذه النوازل ينبغي أن تكون على مقتضى جماعي وليس على مقتضى فردي  كما هو الغالب في النوازل الفقهية المحررة؟ (قضايا تتعلق بالحروب التي تهدد الأمة، قضايا التعامل مع الآخر، والمعاملات المالية الجديدة، والمستحدثات الطبية، ومثل ذلك قضايا الفقر والأمية والتكافل والحرية والعدل والتربية وغيرها مما يحتاج فعلا إلى تأطير شرعي مواكب قد لا تفلح فيه اصطلاحات مذهبية ولا يجد حلا إلا في الانطلاق من النص القرآني المستوعب والسنة النبوية المبينة.

هذه التساؤلات نجد لها صدى إذا انتقلنا إلى ساحة الفكر الإسلامي المعاصر الذي  وإن لم يخرج عن مسار الفكر القديم، فإنه قد أكد بحكم التحديات والضرورات الجديدة على قوة الخيارات الجماعية والشاملة للتجديد ليكون أكثر قدرة على الاستيعاب ومواكبة الواقع المتغير ومشكلاته المعقدة والمركبة التي لم تعد تجدي فيها الحلول والجهود الفردية، ونجد هذا لمنحى واضحا لدى أحد أهم أعلام التجديد المعاصرون الشيخ يوسف القرضاوي في معظم كتبه وخاصة  في كتابه الموجه إلى ترشيد الصحوة الإسلامية، حيث يقرر مثلا : إننا نسعى إلى تجديد يعيد النظر في العلوم الإنسانية من خلال منظور إسلامي صحيح مستمد من فلسفة الإسلام الكلية ونظرته إلى الدين والحياة والمجتمع والتاريخ، مستفيد من كل المدارس القائمة ومن نتائج بحوثها وتحليلاتها دون أن يكون أسيرا لفلسفة واحدة منها أو لفلسفاتها جميعا، كما نقرأ لمجدد آخر هو العلامة الشيخ المودودي في موجز “تاريخ تجديد  الدين” قوله : (لا يكفي تجديد الدين في زمن من الأزمان إحياء العلوم الدينية وبعث ولوع اتباع الشريعة فحسب، بل يلزم لذلك إنشاء حركة شاملة تشمل بتأثيرها جميع العلوم والفنون والأفكار والصناعات ونواحي الانسانية جمعاء. فمن المعلوم أنه لا يقوم ولا يثبت في وجه التيارإلا التيار، ولابد من إزالة فساد شامل في الحياة كلها ببرنامج جامع يقوم بعملية الاصلاح من الجذر إلى الفرع في غاية  الاتزان) هذا كله يقتضي توسيع التعريف القديم للتجديد كما يقول أحد المهتمين بالتجديد: إذا نحن قصرنا التجديد على كسر البدعة بل يذهب بهضهم إلى درجة يكون معها محصورا في محاربة الانحراف في العبادات إما بالزيادة وإما بالترك، وهذا إن كان يكفي في العصور السابقة فهو اليوم لا يكفي ولايفي بالغرض من التجديد كما هومطلوب.

كما أن التجديد لا يعتبر تحللا من كل قديم وأنه فقط رغبة جامحة في مواكبة ما يحدث ويجد ويتطور كما يريد بعض أدعياء قراءات النص خارج النسق، وهي قراءات تنتحل التجديد وهي لا تمارس التجديد في الواقع وإنما تمارس تشكيكا في الأصول، من هنا كان ضروريا استدعاء أطروحات مخالفة مرجعيا ومنهجيا وخاصة منها تلك التي تقول بتراثية الوحي- أي اعتباره تراثا يجوز فيه من الأخذ والرد ما يجوز في باقي الموروثات- وأيضا تلك التي تقول بتجاوز التراث جملة وتفصيلا، وإحداث قطيعة شاملة مع الماضي وتلمس أسباب النهضة والتقدم في الأمم والحضارات الناهضة والمتقدمة إلا أن هذا الاستلهام في اعتقادي لا يعفي من طرح أسئلة حقيقية وجوهرية وربما حرجة في وجه التجديد الذي غدا ضرورة من الضرورات الشرعية والواقعية على حد سواء (نتعرف عليها في العدد القادم).

ذ. سعيد شبار

—————–

(*) أصل المقال محاضرة في ندوة تجديد الفكر الإسلامي بجامعة المولى اسماعيل بمكناس.

> أعدها للنشر:

محمد البويسفي

وعبد الحميد السراوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>