المسألة الثقافية في العالم الإسلامي وسؤال التغيير والممانعة  2/1


أثر الاستقلال السياسي في الابداع الحضاري:

في ظل التحديات التي يعيشها  العالم الإسلامي في المرحلة الراهنة, خصوصا بعد دخولنا إلى زمن الألفية الميلادية الثالثة, قرن الإنسان المعلوماتي والثقافة الرقمية الدقيقة, يبدو الكلام عن الثقافة الاسلامية من موجبات هذه المرحلة دفعا بالفكر الاسلامي في اتجاه التفكير الجدي والمتواصل بالمستقبل الاسلامي, ومن ثم تداول النظر والرأي بخصوص مجموعة من الملفات الساخنة التي تختزل التحديات والمتاعب التي يواجهها المسلمون من جراء التركية الحضارية الجديدة التي صاغت لبناتها بإحكام مراكز القرارات الاستراتيجية في الدول الغالبة والقوية في إطار النظام العالمي الجديد والعولمة. ولعل من أسخن الملفات التي ينبغي التصدي لها, وإشاعة التفكير فيها بكل مسؤولية، ملفينأساسيين: أولهما ملف الممانعة الثقافية، بالتفكير في سبل مواجهة كل أشكال الاختراق, خاصة والقرن الحالي هو قرن الاختراق الثقافي العابر للقارات, وثانيهما ملف الإبداع؛ إذ لا يعقل أن نتحدث عن الحفاظ على الهوية بدون الحديث عن ابداعية أصحاب هذه الهوية, وهو ما نعني به “الشراكة الحضارية” بدخول ميدان المنافسة التكنولوجية والاقتصادية، ولن يتأتى  تحقيق هذا المطلب ما لم تتوفر الأمة على استقلالها السياسي التام، الذي سيخلص المفكرين والعلماء والباحثين، وأصحاب المشاريع النهضوية، من عقدة الفصام الحاد الموجود بين التفكير السياسي والتفكير الثقافي، الفصام الذي لعبت القوى الاستعمارية دورها في ترسيخه والحفاظ عليه، بأشكال مختلفة، لكنها لم تنجح في مشروعها هذا، الذي عاد على الأمة بالتبعية والارتكان الحضاري، إلا بعدما خططت لإيجاد من يساندها بداخل مراكز القرارات، بل ويحمل عنها مشروع الاستتباع.

إن الكلام عن مستقبل الثقافة الاسلامية ليس إفرازا للمحنة الحضارية التي تعيشها الأمة الإسلامية في الوقت الراهن، والتي قاسى من أجلها الفكر الإسلامي معاناة قدرها قرنا بأكمله، ظل خلاله و لا يزال، يبحث عن عن سر التخلف والانحطاط من جهة، وعن سر الإعاقة التي أصابت كل مشروع نهوض من جهة أخرى. أقول، إن الكلام عن المستقبل الإسلامي هو في عمقه إحساس عميق بضرورة ا لوعي بأننا لا ينبغي أن نبقى خارج مسار التاريخ أكثر من اللازم، خاصة وأننا مجبرون على التقدم لسببين أساسيين، يتعلق أولهما بكوننا أمة الشهادة على الناس مصداقا لقوله جل جلاله {لتكونوا شهداء على الناس, ويكون الرسول عليكم شهيدا} (البقرة: 143)، ولن نكون كذلك ما لم نؤد وظيفة التبليغ والدعوة والبيان من جهة, وأن تكون الأمة الإسلامية شاهدة على العالمين بسلوكها ونموذجها في الارتقاء العمراني والحضاري (الأسوة الحسنة) منجهة أخرى. وأما ثانيهما فلامتلاكنا لقوة طبيعية بعضها لا يسخر إلا في الإجهاز على وحدة الأمة وإضعافها، ولتوفرنا على قوة بشرية لا بد من استثمارها باعتماد خطة التنمية البشرية المستقبلية، التي من أهم ما ينبغي أن تفكر فيه، الحد من هجرة الأدمغة, وتوفير المستوى التربوي والتعليمي المستقبلي، وتطوير متطلبات الإبداع والابتكار والعمل الجدي بداخل الأوطان الإسلامية, بل والدفاع المستميت عن المشاريع المستقبلية، التي تستهدفها المخططات الاستعمارية للإجهاز عليها أو على أصحابها.

في ضرورة تحديد أرضية المنطلق:

إن المشاهد الحية في جسد هذه الأمة تشير إلى أن المسلمين، جغرافيا وشعوبا، هم اليوم في حال انتقال من تَكَوُّنٍ تاريخي وجغرافي إلى آخر يستدعي وجود حركة إسلامية متجددة تقود مرحلة التحول والانتقال في ضوء المتغيرات الذاتية والخارجية، حفاظا على الهوية بالأساس من زوبعة العولمة التي تضرب في العمق ثقافات الشعوب الأصيلة في محاولة من أصحابها لتوحيد كل الثقافات الكونية تحت مظلة الثقافة الأمريكية. وعليه يستدعي مسار الانتقال هذا، من تكون تاريخي وجغرافي إلى آخر، النظر إلى تاريخنا وواقعنا على حد سواء, لربط الأزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل) بعضها ببعض لتظل للأمة الجذور التي تحميها من رياح الزوبعة، مع اعتقادنا الأكيد أن النظر إلى المستقبل لا يمكن أن يتم ما لم نحدد الأرضية التي نقف عليها في الحاضر انطلاقا من الماضي، وهي عكس الرؤية العلمانية التي لا تنظر إلى المستقبل إلا باعتماد القطيعة مع الماضي العربي الإسلامي.

ولعل من أشد ما يثير انتباهنا, ونحن نتابع الحركة الثقافية والعلمية في العالم، ما لحق هذا الأخير من تسارع جنوني وتحولات دقيقة من أنماط ثقافية إلى أخرى أكثر تعقيدا بفعل ما خولته الثورة المعلوماتية للإنسان من قدرات على اختز ال الأزمنة والأمكنة والأبعاد على حد سواء إلى درجة تحولت معها شخصيتنا من حالة المتابعة والانبهار إلى مرحلة الأرق الحضاري من جراء المتاعب التي يتسبب فيها تداخل جهلنا وعجزنا من جهة، وقوة الثقافة الغالبة وامتدادها من جهة أخرى، الشيء الذي يولد في نفوسنا صدمات خطيرة تزيد من حدة الإعاقة والارتهان الحضاريين، نشعر خلالها بضرورتين متلازمتين: أولاهما مواكبة العصر والاستجابة لمتطلباته, والتفاعل مع التطور, والاستفادة من منجزات العقل العالمي الناهض بدعوى العمل على  التقريب بين الزمان الذي يعيشه  العالم الغربي وبين زماننا؛ وثانيهما الحفاظ على  والذات والهوية من الذوبان والانصهار بفعل تلك الاستجابة. ولعل هذه  المشكلة هي الأكثر تداولا بداخل الخطابات العربية والاسلامية المعاصرة, والتي من خلالها يمكن أن نحدد خريطة التصورات الإيديولوجية العاملة بداخل الجغرافية العربية والإسلامية على حد سواء، والتيباستمرار صراعها حول من له الأهلية في التخطيط لمشروع النهوض الثقافي العام سيظل المجتمع رهين تخلفه وانحطاطه، بالرغم من المظاهر المادية الزائفة التي يحاول الظهور بها، لأن الخلل إذا أصاب العقل فإنه لا حاجة بنا إلى الجسد مهما حاولنا تزيينه من الخارج.

 ذ. عبد العزيز انميرات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>