من نواقض الإيمان


زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا

لا زلنا مع هذه العناصر المتبقية من نوا قض الإيمان في هذه الحصة سأتناول بإذن الله ناقضا آخر هو زعم من يزعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا وأن هذا الباطن هو غير الظاهر .هذه كلمة ربما شاعت قديما وتلقفها بعض الناس بدون تمييز وتداولوها قديما ثم عادت للظهور مجددا على ألسنة أناس ليس لهم اتصال وثيق بعلوم الشريعة الإسلامية، أناس يرون أن للقرآن معاني ظاهرة ومعاني أخرى خفية باطنية وأن المراد من القرآن هو المعاني الظاهرة والباطنة أو أن تلك المعاني الباطنة أولى من المعاني الظاهرة أو أن هذه الأخيرة يقف عندها البسطاء والسذج والذين لا يعلمون إلا ظاهر الأشياء. ولذلك أصبح كثير من الشباب يرتمي بجهل فظيع جدا في هذه المقولة ويتلمس كل الأقوال الغريبة وكل التأويلات الباطنية التي يمكن أن يعثر عليها هنا وهناك فإذا ظفر بشيء منها فرح فرحا شديدا وأعتقد أنه هو الذي وصل إلى لب القرآن وأنه الذي فهم القرآن.

ذكرت لكم في غير ما مناسبة أن القول بأن القرآن له مدلول آخر غير هذا المدلول الذي تساعدنا عليه اللغة العربية هو في الحقيقة تفجير وتعطيل وإزاحة له أي بما أنه ليس بإمكاننا أن نزيل القرآن من حياة الناس وبما أن القرآن هو حاضر فينا ومعصوم فإن أفضل طريقة لإلقائه هي إلقاء معانيه ،بمعنى أن نقول للناس اقرؤوا القرآن كله ولكن اطلبوا له معاني أخرى لا تقفوا عند المعاني الظاهرة. هاته الأخيرة فهمها الصحابة والجيل الأول والتي بموجبها أسسوا حضارة الإسلام .فإذن هم يتلمسون هذه المعاني التي سموها المعاني الباطنة ويقفزون عليها قفزا ويبحثون عنها في كل كتاب ولا يسألون قائلا حجة ولا دليلا. فمن قال من المعاني الباطنية كذا وكذا قبلنا منه ما قال ولم نسأله عن شيء.

إن هذا القول ينتهي إلى أن هناك قرآنين، قرآنا ظاهرا يفهمه عامة الناس وقرآنا خفيا باطنايفهمه خاصة الناس. والناس بما أنهم يحبون أن يكونوا من الخواص فهم يجب أن يكونوا مشغولين بالقرآن الباطني وبالمعاني الباطنة أكثر مما يجب أن يكونوا مشغولين بالمعاني الظاهرة. إن هذه مقولة فاسدة وسأبين لماذا هي كذلك، ولماذا يجب أن نعدل عنها. رجل عادي الآن يبدأ رحلته في الإسلام يكون تائها في حالة شرود يعود إلى الفطرة يتلقفه أحد الناس فيوحي إليه بأن الفهم الصحيح للإسلام هو ما يقرأه في هذا المكان أو تلك الجهة وأن المعاني التي يجب أن يبحث عنها هي المعاني السامية وليدع للناس هذه العاني البسيطة. إذن ما الذي جرى بعد انتقاله من حالة الشرود والبعد إلى حالة إلغائه الشريعة الإسلامية وإلغائه لمفهوم القرآن والبحث عن معان أخرى لا دليل ولا حجة عليها. هذا هو بيت القصيد. إن هذا القرآن الكريم صفته الأولى أنه قرآن عربي {وكذلك أنزلناه حكما عربيا} فطريقة الوصول إلى الحكم القرآني لا بد أن تمر عن طريق الأسلوب القرآني. لا يمكنك أن تصل إلى فهم القرآن أو إلى معاني القرآن إلا من خلال المرور إلى لغة الضاد، وبقدر ما تتقن اللغة العربية تتقن الوصول إلى معاني القرآن وبقدر ما يجهل الإنسان معاني اللغة العربية  يجهل معاني القرآن.

هذا هو الأساس. إن بعض الناس سواء كانوا مع الإسلام أو ضده أصبحوا يتصورون أن بالإمكان القفز على المعاني القرآنية وبالإمكان الوصول إليها بيسر وببساطة ومن غير أن يستجمعوا للأمر عدته فينزلقون إلى هذا المنزلق. هذا الأمر بعيد المنال ولا يمكن أن يوصل إلى الغاية لأن القرآن الكريم له أسلوب دقيق في الوصول إلى الحقيقة. والكلمة القرآنية ليست موضوعة عبثا أو اعتباطا أو كلمة يملأ بها الفراغ وإنما لها مضمون ومعنى. العلماء القدماء وقفوا عند قول الله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} هذه الآية لا يفهمها إلا إنسان له حس عربي سليم يقف مع قول الله تعالى هذا. يَسْتَلْفِتُنَا أمران: استعمال اسم الموصول “الذي” حينما تحدث عن محمد صلى الله عليه وسلم {والذي أوحينا إليك} وقبل {وما وصى به نوحا} و{ما وصينا به إبراهيم} فبالنسبة لنوح استعمل ما الموصولة، وبالنسبة لإبراهيم استعمل ما الموصولة وبالنسبة للخطاب لمحمد استعمل ” الذي” والذي إذا ما قورن بسائر الأدوات الموصولة فإنه هو أصلها “فالذي” إذا نظر إليها مع بقية الأسماء الموصولة فإن الأصل في هذه الأسماء هو إسم الذي. لذلك فهو يحتل الدرجة الأولى وهو المقدم عليها. ولذلك الاستعمال القرآني لمحمد صلى الله عليه وسلم كان بكلمة الذي وليس بما الثانية. فهناك انتقال في هذه الآية من إسم إلى اسم، من “ما” إلى “الذي” ثم الرجوع إلى “ما” ثم في قول الله تعالى في هذه الآية أثبت لنوح أنه وصاه وأثبت لإبراهيم وموسى وعيسى أنه كذلك وصى ولكن حينما تحدث عن محمد صلى الله عليه وسلم قال {والذي أوحينا إليك}. ما نزل على هؤلاء الأنبياء نوح وإبراهيم وعيسى وموسى هو وحي لكنه لم يكن متعبدا به. إن المعاني كانت هي المرادة لكن الألفاظ لم تكن معجزة. إن الوحي الذي خُصَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم مميز عن سائر أنواع الوحي، لأن الكلمة القرآنية هي نفسها مُوحَاةٌ، وهي نفسها محفوظة ومعجزة ومتْلُوَّة ومتعبد بها، أما الكلام الذي كانت عليه صحف إبراهيم، وما عند موسى وعيسى، إن ذلك كله كانت المعاني إلهية، ولكن الألفاظ لم تكن معجزة، ولم تكن مكفولة البقاء، ولم تكن محفوظة مثل القرآن الكريم.

إن قول الله تعالى: { والذي أوحينا إليك} تؤخذ منه هذه المعاني المهمة جدا، لكن هذه المعاني لا يطلع عليها إلا كبار علماء اللغة وحُذَّاقُهَا إن مثل هذا الأمر تعب فيه العلماء الذين نذروا أنفسهم لخدمة الشريعة. لقد أتعبهم هذا الأمر. فكيف يمكن لإنسان عادي أو أستاذغير متخصص أن يجتهد ويفتح باب الاجتهاد، إذن لا بد أن نقول إن اللغة العربية هي التي توصل إلى المعاني الصحيحة. لكن أناسا كانوا يرون أن بإمكانهم الوصول إلى معان أخرى وهذا وقع بدون أن يتعارض مع القرآن. مثلا حينما أنزل الله تعالى في يوم حجة الوداع { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة)  الظاهر أن عامة الصحابة استبشروا بهذه الآية لأن فيها ألفاظ الكمال والتمام والرضا. لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما سمع هذه الآية ازداد فهما آخر فبكى فقال: إن الأشياء حين تكمل لا يبقى بعد الكمال شيء. إنه بعد الكمال لا يأتي إلا النقصان لكل شيء إذا ما تم نقصان. إذن هذه سنة الله في الأشياء. وبما أن الدين قد كمل وانتهى فقد قال عمر في نفسه: إن هذه الآية جاءت تنعي إلينا رسول الله ولم يكن الصحابة قد فهموه وهو فهم منسجم معهم ولكنه ليس بعيدا ولا يخرق قواعد اللغة. إنها إشراقة جديدة وهذه نوع من الفهوم وهذه عطاءات إلهية. وقد كان ابن عباس يجلس مع كبار الصحابة وكان عمر يجلسه وكان بعض الصحابة بعد وفاة الرسولصلى الله عليه وسلم يرون فيها شيئا غير طبيعي وكان يتمنى ألا يجلس هذا الصبي فأراد عمر أن يبين  لهم أنه إن أجلس هذا الشاب فقد أجلسه للفائدة وقال: ما تقول في قول الله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره}  هذه الآية تبشر أيضا بانتهاء الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا. فقال: لا أرى هذه الآية بشارة إلا أنها كانت أيضا نعيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى انتهاء حياته. قال: بما عرفت ذلك. قال لأن الاستغفار يأتي بعد نهاية الأعمال. النعمة يستتبعها الشكر. أما نهاية الأعمال فيأتي بعدها الاستغفار كما هو وارد في صلاتنا مثلا. عقب الصلاة نستغفر الله. وكذلك في آيات الحج أمر الحجاج بالذكر والاستغفار. {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا الله}.

هذه الأشياء طبيعية وممكنة. هذه تجليات. حتى حينما جاءت امرأة تشكو زوجها كان قد اعتزلها في الفراش وتجرد للعبادة. جاءت  تشكو ه إلى عمر بن الخطاب وتقول إن لي بعلا أو زوجا صالحا يصوم النهار ويقوم الليل. فقال لها عمر : نعم البعل بعلك فسكتت المرأة ثم عاودت الكلام مرة أخرى تطرح نفس السؤال ثم عاودت المرة الثالثة فقال أحد الصحابة ليس عن هذا تسألك يا أمير المؤمنين. إنما تشير إليك إشارة أن هذا الزوج قد انفصل عنها في الفراش ولم يعد يتصل بها فقال عمر كما فهمتها فاقض بينهما فقال هذا القاضي بعد أن استدعى زوجها: إني آمرك أن تكون مع زوجتك وأن تأتيها مرة كل أربع ليال وفي الليالي الأخرى يمكنك أن تعتكف وتتهجد وتصلي ما تشاء فعجب عمر لهذا التحديد أيضا كيف يجب أن يكون هذا الزوج مع زوجته مرة كل أربع ليال فقال لأن الله تعالى منحه أن يتزوج أربع نسوة فلو كان له أربع نسوة ما كان لها إلا حظ مرة كل أربع ليال وبما أنه لم يتزوج هؤلاء الأربع فيبقى الثلاث له وحظها أن يكون معها في الفراش مرة كل أربع ليال هذا فهم جيد وهو معنى باطني كذلك وخفي لم يكن جميع الناس قادرين على الوصول إليه. هذه هي الأشياء التي يمكن أن نفهم بها المضامين البعيدة والباطنية. لكن بعض الناس انطلقوا من هذا وشطروا القرآن شطرين: المعنى الظاهري والمعنى الباطني. ويهتمون بالمعنى الباطني أكثر من اهتمامهم بالمعنى الأول وصاروا يفسرون القرآن وفق أمزجتهم وأهوائهم وكما يريدون. {إن الذين كفروا سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} قال بعض المفسرين: والكفر هنا هو الكفر بالله، قالوا: {إن الذين كفروا}بمعنى ستروا محبتي بالمعنى اللغوي. هؤلاء الناس يحبون الله تعالى وستروا محبتهم. سواء عليك يا محمد آنذرتهم أم لم تنذرهم بالوعيد فإنهم لا يؤمنون بك لأنك تنذرهم بمخلوقاتي وهم يسترون محبتي. {ختم الله على قلوبهم} أي فلم أجعل فيها موضعا لمحبة أحد وهي حينئذ قلوب معمورة بمحبة الله. هذا من التفاسير التي فسرت بها هذه الآية. إن الآية واضحة في أنها تتحدث عن أناس كفرة أخزاهم الله. فكيف نحولها بهذا التأويل الفاسد إلى أنها تتناول أفضل الناس الذين شغلوا بمحبة الله عن غيره، طبعا هذا لا يصح وهذا تحريف واضح لمعاني القرآن الكريم. { ظهر الفساد في البر والبحر} قالوا: إن البر هو الجوارح والبحر هو القلب، فساد البحر أشد من فساد البر لأن البحر هو الذي يمد البر، هذا تعطيل وتحريف ولعب بالقرآن. هذه آية قرآنية واضحة والبر إذا سألت عنه في اللغة العربية تعرفه والبحر تعرفه. {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل} هذه الآية معروفة أمرنا الله تعالى فيها أن نحسن إلى الوالدين والجيران. هؤلاء الناس معروفون يجب أن نوصل إليهم حقوقهم. قالوا أما الجار القريب فهو القلب وهو أقرب جيرانك إليك وأما الجار الجنب فهو الطبيعة المركوزة فيك وأما الصاحب فهو العقل الملتزم بالشريعة وابن السبيل هم الجوارح. لماذا لا يكون العكس. هذا كلام فيه عدوان واضح على لغة القرآن. فالقرآن واضح المعاني ولا يمكن أن يعبث به هكذا. وهذا شيء قليل فهناك آيات كثيرة أدت بالمسلمين إلى نتائج عملية خطيرة. {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} والله تعالى أمر الأمة الإسلامية بأن تقاتل الكفرة القريبين منا لكن هؤلاء يقولون إن الإنسان لا يجد الكافر أقرب إليه من قلبه ونفسه فيجب أن يقاتلها. ولا زال الكثير من الناس يتتبعون هذه الأشياء يظنون أنهم يأتون بشيء اسمه تفسير وهو ليس بتفسير أبدا.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>