“لو لم يكن الليل لكنا عاجزين عن رؤية السماء ذات النجوم، وهكذا يجردنا الضوء من بعض الرؤية، في حين أن العتمة والظلام يساعداننا على أن نرى شيئا”.. كلمات رقيقة وعميقة، قالها الرئيس البوسنوي السابق علي عزت بيجوفيتش في كتابه “هروبي إلى الحرية” الذي كتبه وهو في السجن بيوغوسلافيا السابقة.
وهذه الكلمات تصوير دقيق لشخصية الرجل وجمهورية البوسنة والهرسك التي ولدت على يديه؛ فمأساة البوسنة وليلها الطويل الكئيب جعل المسلمين يرون في بيجوفيتش قمرا يضيء ليلهم، حيث أعاد اكتشاف الذات والهوية، وربطهم بالإسلام والحرية، وكشف عن صلابتهم وقدرتهم على التضحية، بعدما كادت الشيوعية والديكتاتورية تذيب معالمهم وملامحهم.
نشأة متميزة:
ولد علي عزت بيجوفيتش عام 1344هـ = 1925م في مدينة بوساناكروبا شمال غربي البوسنة في أسرة عريقة في إسلامها. والمعروف أن الإسلام دخل إلى منطقة البلقان على يد العثمانيين بعد معركة “كوسوفا” الشهيرة سنة 792هـ = 1389م بعدما انتصروا على الصرب. ثم دخل الإسلام البوسنة سنة 868هـ = 1463م، واعتنق البوسنويون الإسلام، وعُرف مسلموها بالبوشناق، وظلوا خاضعين للدولة العثمانية حوالي 415 عاما، وبعد زوال الحكم العثماني تعرض المسلمون فيها لاضطهاد ديني وعرقي متكرر؛ أدى إلى نزوح عدد كبير من السكان إلى تركيا، ولم يُسمح للمسلمين لعقود طويلة بممارسة حقهم في إدارة شئونهم، فضلا عن المذابح والانتهاكات الرهيبة التي تعرضوا لها في فترات متعاقبة لمحو إسلامهم وهويتهم.
نشأ بيجوفيتش في مناخ يعادي المسلمين وينظر إليهم على أنهم دخلاء على أوربا. وتعلم في سراييفو في مدرسة ثانوية ألمانية عُرفت بمنهجها الأكاديمي الصارم. وتفتحت في تلك الفترة الباكرة مواهبه وتعطشه للإسلام، فأسس مع بعض زملائه ناديا مدرسيا للمناقشات الدينية أطلقوا عليه “ملادي مسلماني” أي جمعية الشبان المسلمين، وكان عمره في تلك الفترة 16عاما، ولكنه كان يمتلك طاقة فكرية كبيرة اقترنت بحيوية الشباب، لذلك تطورت الجمعية من النقاش إلى العمل، فقامت بأعمال تعليمية وخيرية، وأنشأت قسما للفتيات المسلمات، وقدمت خدمات ومساعدات أثناء الحرب العالمية الثانية للمحتاجين.
إنشاء الشبان المسلمين:
بيجوفيتش في شبابه:
رغم حداثة إنشاء جمعية الشبان المسلمين التي ساهم بيجوفيتش في تكوينها فإنها كانت متفتحة على العصر وعلى دينها؛ فقد سعت إلى بناء شخصية مسلمة تستطيع أن تتعايش مع الواقع الأوربي. وتأثرت الجمعية بأفكار الطلاب البوسنويين الذين درسوا في الأزهر الشريف وتأثروا بأفكار جماعة الإخوان المسلمين. وخرجت الجمعية برؤية مفادها أن الإسلام أيدلوجية يجب أن تكون واقعا في الحياة، وليس دينا ينحصر في حدود الفرد والعبادات فقط. وبهذا الفهم نظرت الجمعية للإسلام.
وقد سعت الجمعية إلى انفتاح متوازن على الإسلام وحركاته التي ظهرت في تلك الفترة بالعالم الإسلامي، وتأثرت بتجربة إندونيسيا وباكستان. كما كان هناك انفتاح على الثقافة الغربية في منابعها الأصلية؛ حيث خططت الجمعية لتعلم اللغات الأوربية ليتسنى لها قراءة الأفكار بلغتها. واستطاع بيجوفيتش أن يتقن ثلاث لغات هي الألمانية والإنجليزية والفرنسية.
جذبت جمعية الشبان المسلمين الشباب المسلم المثقف في جامعة سراييفو، وكانوا يرون أنها تقدم لهم الإسلام بطريقة تختلف عن النموذج الذي يطرحه علماء الدين الرسميون، وفي هذه الأثناء وقعت يوغوسلافيا تحت الحكم الألماني في ربيع الآخر 1360 هـ = إبريل 1941 الذي أزال الحكم الملكي، وأخذت أفكاره النازية الفاشية تجد مكانها بين الشباب من خلال حركة “الأستاشا” النازية الموالية لهم؛ فوقفت جمعية الشبان المسلمين موقفا حازما من هذه الأفكار، ونادت بتحريم التحاق الشباب المسلم بهذه الحركة، ونتيجة لذلك رُفض الترخيص للشبان المسلمين عقابا لهم.
معاناة في ظل الشيوعية:
انتهت الحرب العالمية الثانية، وتبع ذلك حدوث تغييرات في الخريطة الأوربية، منها نشأة الاتحاد اليوغوسلافي في محرم 1365هـ = نوفمبر 1945م بعد اتفاقية “أفنوي” المكون من 6 جمهوريات مستقلة، منها البوسنة والهرسك، وإقليمان متمتعان بالحكم الذاتي هما كوسوفا وفويفودينا. ونص دستور الاتحاد على المساواة الكاملة بين كافة القوميات والأعراق والأديان والثقافات.
كانت مساحة الاتحاد اليوغوسلافي 288 ألف كم2، وكان -مقارنة بمساحته- أكبر تجمع عرقي وثقافي حيث ضم حوالي 20 جماعة عرقية تتحدث 14 لغة ولهجة. وكانت مشكلة هذا الخليط العرقي والديني هي تداخله بين الجمهوريات اليوغسلافية وامتداده إلى خارج الحدود في الدول المجاورة.
في هذه الفترة كان علي عزت طالبا بكلية القانون جامعة سراييفو، وكانت الأفكار الشيوعية في تلك الفترة ذات بريق. وقد تعرض بيجوفيتش أثناء دراسته للاعتقال والسجن أكثر من مرة، حتى حصل على شهادة المحاماة بعد فترة، وتخصص في القانون التجاري.
كانت فترة وصول “جوزيف تيتو” إلى السلطة سنة 1373هـ = 1953م وحزبه الشيوعي فترة عصيبة على الأديان، خاصة الإسلام ومعتنقيه نظرا لرؤية الشيوعية لمطلق الدين، وكانت معاناة بيجوفيتش مضاعفة لكراهيته للإلحاد ومعاناته من الاضطهاد، وقد كنّ تيتو عداء مستحكما لعلي عزت ودينه، ومما يُذكر في هذا أن الرئيس عبد الناصر استفسر من رفيقه تيتو عن بيجوفيتش، فأجابه تيتو بأنه رجل أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر؛ لأنه يطالب بأن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في أي بلد تكون لها الأكثرية فيه.
أدرك بيجوفيتش شدة ضيق هامش الحرية الذي يتحرك فيه، ولكن عشقه للحرية والإسلام فرض عليه ألا يبقى ساكنا مسندا ذقنه إلى راحة يديه؛ ولذلك بدأ يتحرك؛ فوثق علاقته بالشيخ “حسين دوزو” رئيس جمعية العلماء الذي عينته الحكومة للإشراف على شئون المسلمين، وأخذ في تذويب الجليد بين المثقفين المسلمين وعلماء الدين الرسميين لإيجاد هوامش مشتركة للتعايش والعمل للإسلام بعيدا عن ضغوط الإلحاد الشيوعي، وهو ما فتح له الباب لينشر مقالات تحت اسم مستعار في مجلة “تاكفين” التي كانت تصدرها الجمعية ويقرؤها 50 ألف مسلم، وكانت مقالاته ذات عمق وتأثير في إيقاظ الوعي والهوية لمسلمي البوسنة.
سجن وخلوة وشهرة:
توفي الرئيس تيتو سنة 1401هـ = 1980م الذي نص الدستور اليوغوسلافي في تعديلاته سنة 1394هـ = 1974م على أن يتم إلغاء منصبه بعد وفاته على أن يخلفه مجلس رئاسة يضم ممثلا واحدا عن كل جمهورية وإقليم، ويتم تبادل رئاسة الاتحاد بالتناوب بين الجمهوريات على أن تكون مدة الرئاسة عاما واحدا. وارتخت بوفاة تيتو القبضة الشيوعية الإلحادية قليلا، وبدأ مسلمو يوغوسلافيا يتحركون، فقام “بكر” نجل علي عزت بتجميع مقالات والده التي كتبها في مجلة تاكفين، ونشرها في كتاب أسماه “البيان الإسلامي”، وأثار ظهور هذا الكتاب ضجة كبيرة، واتُهم بيجوفيتش بأنه يسعى لتكوين جمهورية أصولية إسلامية في قلب أوربا؛ فألقي القبض عليه، وحوكم محاكمة صورية، اتهم فيها بالعمل ضد الدولة والسعي لتحويل البوسنة إلى دولة إسلامية. وفي عام 1404هـ = 1983م صدر عليه حكم بالسجن 14 عاما.
كانت فترة السجن عميقة التأثير في حياته وشخصيته. وطيَّر كتاب البيان الإسلامي صيت بيجوفيتش في يوغوسلافيا كلها، وتداول المسلمون الكتاب سرا على نطاق واسع، وانتشرت أفكار الرجل من حيث لا يدري، أما هو فكان السجن بالنسبة له فترة تفكير وتأمل طويل وعميق، كشفت له حقائق الحياة والإنسان. وأضفى سجن “فوتشا” ذو الأسوار العالية والقضبان الفولاذية على شخصية بيجوفيتش صلابة وقوة، وأعطاه فرصة للتفكير أكثر من الكلام، والتأمل أكثر من الانشغال، واستمر في السجن حتى أعيدت محاكمته، وأطلق سراحه عام 1409هـ = 1988م.
وفي فترة سجنه ظهر كتابه النفيس “الإسلام بين الشرق والغرب” الذي عكف على تأليفه سنوات، ثم حال السجن بينه وبين النشر فقام أحد أصدقائه المخلصين بتهريب أصول الكتاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ونشرت طبعته الأولى هناك عام 1405هـ = 1984م، وكان يهدف من الكتاب إلى تقديم الإسلام بصورته النقية إلى الأجيال الجديدة.
وكشف الكتاب عن عمق ثقافة بيجوفيتش الإسلامية واطلاعه على الفكر الغربي ومعرفته بمواطن قوته وضعفه. ومن آرائه الجديرة بالاهتمام في هذا الكتاب أنه اعتبر أن الفلسفة العدمية التي ظهرت في الغرب ليست إنكارا للألوهية بقدر ما هي احتجاج على غيابها، فهي فلسفة متمردة على الحضارة التي تعيب الآخر، وتخرج الإنسان من حساباتها، ورأى أن محاولات الفلسفة الغربية بشقيها الرأسمالي والشيوعي بناء المبادئ الأخلاقية على المنفعة أو الإلحاد باءت بالفشل، وأنه لا يمكن بناء نظام أخلاقي إلا على الإيمان. وناقش بيجوفيتش في هذاالكتاب مفهومي الحضارة والثقافة بعمق شديد ورؤية شاملة، ورأى أن الثقافة في جذورها البعيدة صدرت عن أصل ديني؛ لأنها (أي الثقافة) تأثير الدين على الإنسان، وتأثير الإنسان على أخيه الإنسان، فهي تحتاج إلى تأمل وشعور دائم بالاختيار على اعتبار أنها تعبير عن الحرية الإنسانية، أما الحضارة فهي تأثير العقل على الطبيعة، وهي فن يتعلق بالوظيفة والسيطرة والصناعة واستمرار التقدم التقني، وهي خط صاعد دائمًا، بدأ من اكتشاف الإنسان النارَ حتى عصر الطاقة النووية؛ على عكس الثقافة التي هي بحث دائم يعود إلى الوراء.. إلى الجذور ليبدأمن جديد.
ورأى أن عداء الغرب للإسلام هو امتداد لعداء الغرب مع فكرة الدين؛ لذلك كان يرى أن الإسلام هو الأيديولوجيا الوحيدة ذات القطبية الثنائية: المادة والروح، ومن ثم فإن تطبيق النموذج الإسلامي لا يمكن أن يتم إلا في مجتمع متقدم. وكان يرى أن قوة الغرب لا تكمن في أسلوب حياته؛ وإنما في أسلوب عمله، لهذا انتقد بشدة دعاة التغريب الذين لا يقتبسون من الغرب إلا أسلوب معيشته فقط.
الانهيار الشيوعي وبروز القوميات:
عندما خرج “علي عزت” من السجن كانت الكتلة الشيوعية في أوروبا تموج بغليان وتغييرات شاملة تلوح نذرها في الأفق، أبرزها تصدع الشيوعية وصعود القوميات مكانها وعدم قدرة الديكتاتوريات على كبح جماح الشعوب، وتجسد ذلك في إعلان رابطة الشيوعيين اليوغسلاف في مطلع عام 1410هـ = 1990م بعد 45 عامًا من احتكار السلطة الموافقة على إقامة نظام متعدد الأحزاب، فأسس بيجوفيتش “حزب العمل الديمقراطي”، وفي منتصف ذلك تم إجراء انتخابات ديمقراطية حرة على أساس نظام التعدد الحزبي، وهزم الشيوعيون في 4 جمهوريات يوغسلافية منها البوسنة والهرسك. وفي 2 جمادى الأولى 1411هـ = 19 نوفمبر 1990م تولى “علي عزت” رئاسة البوسنة.
وفي تلك الفترة كانت المشاعر القومية المتطرفة في حالة صعود، يغذيها بعض الزعماء القوميين المتطرفين مثل “سلوبدان ميلسوفيتش” الذي كان شعاره “كل صربي في أمة صربية واحدة”؛ وهو ما يعني إعادة ترسيم الحدود داخل يوغسلافيا على أساس عرقي، وربما إعادة ترسيم منطقة “البلقان” التي كانت توصف بأنها “برميل البارود” القابل للانفجار في أي وقت.
ولم يمض إلا عام وبضعة أشهر حتى بدأ الاتحاد اليوغسلافي في التفسخ، وأعلنت “كرواتيا” و”سلوفينيا” استقلالهما، وبدأت البلاد تنزلق إلى حافة الحرب الأهلية. وأدرك “بيجوفيتش” أن حربًا أهلية عرقية قادمة، وأن البوسنة من المحتمل أن تكون صفقة بين الصرب والكروات، لذلك سعى لتجنب هذا المصير، وتقدم بحل وسط إلى قمة رؤساء الجمهورية في شعبان 1411هـ = فبراير 1991م وذلك باقتراح إقامة “فيدرالية متناسقة” تلتئم فيها جمهوريتا الصرب والجبل الأسود في اتحاد فيدرالي خاص بهما، وكرواتيا وسلوفينيا في اتحاد كونفدرالي خاص بهما، والبوسنة ومقدونيا في اتحاد خاص يتفقان على شكله، ثم يتم إيجاد إطار يوغسلافي موحد يضم هذه الاتحادات الثلاثة بشرط أن تتمتع جميع الجمهوريات داخله بالسيادة والاستقلال.
كان مشروع بيجوفيتش هو المخرج الوحيد لإنقاذ يوغسلافيا من الانهيار، والحائل دون وقوع الحرب الأهلية بين الجمهوريات والأعراق؛ لذلك حظي المشروع بدعم الجماعة الأوروبية، غير أن الصرب والكروات وسلوفينيا عارضوا المشروع.
محنة البوسنة و”التطهير العرقي“:
أعلنت “كرواتيا” و”سلوفينيا” استقلالهما من جانب واحد في ذي الحجة 1411هـ = يونيه 1991م فقامت قوات الجيش اليوغسلافي الخاضعة لقيادة الصرب بالهجوم على الجمهوريتين، وبدأت حرب دموية، تدخل فيها الأوروبيون بثقلهم لوقف نزيف الدم المسيحي في أوروبا وهددوا صربيا بالعقوبات، وأمام ذلك رأى “بيجوفيتش” أن يستثمر الموقف الدولي للحصول على استقلال البوسنة خاصة أن “الجماعة الأوروبية” اشترطت للاعتراف بأي جمهورية أن يأتي الاستقلال بعد استفتاء شعبي، فبدأ يجهز للاستفتاء رغم تهديدات الصرب داخل البوسنة، وخطب في تليفزيون البوسنة خطابًا قويًّا دعا فيه المسلمين وغيرهم للخروج للإدلاء بأصواتهم دون خوف، وقال: “لقد انتهى إلى الأبد ذلك الأوان الذي يتقرر فيه مستقبل البوسنة دون إرادة مسلميها”.
وفي 24 شعبان 1412هـ = 1 مارس 1992م نزل علي عزت بنفسه إلى الشارع للإدلاء بصوته، حتى يكسر الخوف في نفوس المسلمين، وكانت مخاطرة كبيرة، وتأثر المسلمون بشجاعته وتدفق عشرات الآلاف حتى يقرروا مستقبل البوسنة ويقولوا “نعم للاستقلال” وكانت نتيجة الاستفتاء 62,8%.
لم تمض إلا ساعات قليلة حتى بدأ الإعلام الغربي في حملة تحريض شديدة ضد المسلمين في البوسنة، وسرعان ما انقض الصرب على البوسنة في حرب عرقية دموية وحرب إبادة شاملة، تطوع خلالها آلاف من مسيحيي أوروبا للقتال في صفوف الصرب، وصمت الأوروبيون حتى يمكّنوا الصرب من الإخلال بالقوة الديمغرافية للمسلمين في البوسنة، وكانت قرارات الأمم المتحدة هزيلة للغاية، ولعب الوسطاء الدوليون ومنهم الوسيط الأوروبي والأمريكي دورًا مشبوهًا لاستمرار الحرب، وعارضت بريطانيا ودول أوروبية تسليح المسلمين بحجة أن ذلك يزيد في أمد الحرب.
وعندما بدأ ميزان القوة المختل يعتدل قليلا لصالح المسلمين تدخل الأمريكيون بثقلهم وفرضوا اتفاق دايتوان سنة (1416هـ = 1995م) الذي أعطى المسلمين والكروات 51% من مساحة البوسنة، ومنح صرب البوسنة 49% من المساحة، وخرج بيجوفيتش بعد هذا الاتفاق الظالم الذي حال دون استقلال البوسنة بالكامل، وضيَّع ما يقرب من ثلثي مساحتها، ودمج المسلمين والكروات في منطقة واحدة غير محددة -ليقول: “هذا ليس أفضل ما نحصل عليه ولكنْ شيءٌ أحسنُ من لا شيء”. ثم أجبرتهم الولايات المتحدة بعد دايتوان على تدمير أسلحتهم التي حصلوا عليها بشق الأنفس، ثم أجبرتهم على شراء أسلحة أمريكية مولتها دول عربية، دون قطع غيار.
كانت حرب البوسنة وصمة عار في جبين البشرية، ووصفها أحد المؤرخين الغربيين بأنها أعادت أوروبا إلى القرن التاسع عشر، وخسر المسلمون في هذه الحرب حوالي 350 ألف قتيل، واغتُصبت عشرات الآلاف من النساء.
كان “علي عزت” صلبًا في قلب هذه المأساة، ولم يترك شعبه ليواجه هذا المصير المؤلم، وأصر على البقاء معه تحت الحصار في سراييفو، وعندما أراد الخروج للبحث عن دعم لقضيته، قام بمغامرة جريئة حتى يخرج ويخاطب العالم، فنزل في نفق طويل أسفل المطار الذي يسيطر الصرب على النقاط الإستراتيجية حوله.
وعندما وضعت الحرب أوزارها بعد اتفاق “دايتوان” لم يغره بريق السلطة، فاستقال من رئاسة الجمهورية، ثم من رئاسة حزبه السياسي متعللاً بحالته الصحية. إلا أن الواضح أن روحه وعقله كانا أكبر من قيود السلطة. وقد حصل بيجوفيتش على جائزة الملك فيصل سنة 1415هـ – 1994م، وعلى شخصية العام للعالم الإسلامي سنة 1422هـ – 2001م.