التأله الأمريكي في العالم – كيف نفهم المرحلة الاستعمارية الثالثة؟ 2/2


هل استلهم الشاعر العراقي الأصيل أحمد مطر الحكمة القرآنية حين تحدث عن لحظة تولي رئيس الإدارة الأمريكية الحالية جورج بوش (2000) الحكم، بقوله:  أهذا الغبي الصفيق البليد../إله جديد؟!

الإدارة الأمريكية.. الإله الجديد!

إذا كنا قد اتفقنا على أن ألوهية الله تعالى تعني أن يكون الله تعالى في مركز أي منظومة معرفية وحياتية تحاول الاقتراب من الظاهرة الإنسانية وهندستها وفق مفاهيم التراحم والعدل، فإن أي محاولة لنزع الله عن هذا المركز هي محاولة لتبوئ رتبة الألوهية.

لقد حاولت بعض التيارات المغالية ضمن جسد الحركة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين أن تصف الحكام العرب بالكفر استنادًا لرغبتهم في التشريع للجماهير والشعوب العربية والإسلامية، ومن ثم وصفتهم بصفات الفرعونية، ومن بينها محاولة التأله: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي…} (القصص: 38).

وبصرف النظر عن هذه الرؤية التي تراجع عنها أصحابها فيما عرف باسم حركة المراجعة في أوساط الحركات الإسلامية المغالية.. بصرف النظر عن هذه الرؤية نجد أن ممارسات بعض الإدارات الأمريكية الحاكمة تمثل لحظات تجلٍّ لنموذج إحلال الذات الثقافية العلمانية محل الإله.. فنحن الآن بين يدي تأله علماني. هذا المصطلح قد يثير عجب البعض، لكن يمكن مناقشته تاليًا.

 الرؤى المادية والرؤى الدينية:

العلاقة بين الرؤى المادية والألوهية ليست من وجهة نظري محاولة لإبعاد رجال الدين عن الحكم. فنموذج التفكير المادي محاولة لإبعاد القيم المطلقة المنافية للاعتبارات المصلحية عن مركز تأسيس العلاقات الإنسانية.

فالحياة الدنيا ليست سوى علاقات اجتماعية مركبة أو بسيطة.

فعندما تتأسس علاقة بسيطة بين شخصين يمكن أن يكون مركزها قيمة مطلقة، أو قيمة نسبية، ولننظر إلى العلاقة الزوجية.

فتأسيس هذه العلاقة إنما هو على القيم المطلقة، سواء أكانت القيم الدينية، أو القيم الإنسانية التي تضل الطريق عن التأسيس الديني، سنجد أن قيمًا كالوفاء والتراحم والحب تحمي هذه العلاقة، وتصون بقاءها، وتضمن استمرارها. أما لو تأسست على اعتبارات مادية كتكلفة العلاقة فستصير بدائل لا أخلاقية كالدعارة والزنا والمثلية ربما أوفر من جهة النفقات، ولصارت ظواهر الأمومة والأبوة ظواهر غير مجدية اقتصاديًا، انظر لبشاعة هذه الحالات المتطرفة من إحلال القيم النسبية محل القيم المطلقة.

وأظن أن القارئ يمكنه تعميم النظرة هذه لتطول العلاقات الاستثمارية الضخمة، التي يستعد فيها المستثمر للتضحية بأرواح آلاف المستهلكين طالما أن ذلك يعود عليه بالربح، ولعل تجارات المخدرات والسلاح وغيرها من الحالات النموذجية أصدق تعبير متطرف عن هذه النماذج.

إن خطورة الرؤية المادية التي تستبطنها عملية الأمركة، أنها تحاول إحلال الرؤى المادية المتمثلة في المصالح المادية محل القيم الإنسانية المطلقة في تأسيس العلاقات الإنسانية. فتبدأ بهذا التأسيس، ثم تحاول ضبط وتعديل نموذجها من خلال عملية الترشيد والضبط القانوني، لكنها تنتهي إلى إنتاج رؤية لا تلتزم بالقيم إلا في حالة توفر أداة قمع إلى جانبها، لأنها منعت الأساسي المطلق الذي تستند إليه هذه القيم، وقتلته في النفس.

وهناك مثال لا يسأم الإسلاميون من تكراره، وهو حقًا ذو دلالة مهمة لدينا، هذا المثال هو مقارنة بين تطبيق حكم تحريم الخمر في الخبرة التاريخية، فحين نزلت آية التحريم يصف الشهود مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن الأنهار تجري في طرقاتها من فرط إهراق الخمور على الأرض والتخلص منها. وتسوق على الطرف الآخر محاولات الولايات المتحدة ضبط استهلاك الخمور، ومنع السكر المفرط، والذي وصلت عقوبته في بعض الأحيان إلى الإعدام، ولكن ذلك لم يمنع الظاهرة.

الفارق بين النموذجين هو الفارق بين اعتماد النموذج الإسلامي للقيم المطلقة التي أدت لالتزام ذاتي طوعي، بينما النموذج الآخر افتقد هذه القيم، فضل طريقه، برغم أن المصلحة التي اعتبرها المثالان محل المقارنة هي نفس المصلحة.

هذا النموذج التطبيقي يبين خطورة ما تسعى إليه الولايات المتحدة. إن ما تفعله إدارة الرئيس جورج بوش ليس سوى محاولة لإبعاد الإله والقيم المطلقة عن مركز تأسيس العلاقات الإنسانية في مرحلة العولمة، ووضع الولايات المتحدة وحلفائها.

 منهج حياة بديل.. أمريكي طبعًا:

سبق أن أشرنا إلى أن الله في الدين الإسلامي هو مركز تأسيس العلاقات الإنسانية عبر وضع ملامح منهج معين، محدد بالأوامر والنواهي الواضحة، والثابتة الورود، والقطعية الدلالة أو الظنية الدلالة، بقدر ما يراه الله تعالى من ضرورة إفساح المجال لتعدد الرؤى الاجتهادية البشرية الملائمة لتنوع المعطيات التاريخية، وطالما أن لكل مركز تأسيسٍ للعلاقات الإنسانية منهجَ حياة، فقد صاغت الولايات المتحدة منهج حياة بديلا، وهو نمط الحياة الأمريكية، أو الحلم الأمريكي. وطالما أن منهج الله قائم على الدعوة للمنهج ونشره، فقد كان النموذج الأمريكي يحرص على فرض منهجه من خلال العملية التي تسمى بعملية الأمركة، والتي يحاول البعض إدماجها في تعريف العولمة.

وقد تم تدشين هذا النموذج الأمريكي بحيث يحل قيمة المصلحة الاقتصادية كقيمة أساسية تمثل محور حياة الأشخاص والجماعات وحتى الدول. وأما الدول التي ترفضه فقد جعلت نفسها أولى ضحايا الإله الجديد وقربانا أوليا يتم ذبحه لإرواء عطش الإله الاقتصادي للمادة الاقتصادية التي تبدأ بالطاقة وتنتهي بالربح.

 لا أخلاق بل قوة وهيمنة:

والنموذج الأمريكي يهرب من قضية الصياغة الأخلاقية لنموذجه، ومحاولة غرس هذا النموذج الحياتي عبر العبادة والأساس الأخلاقي الرقابي الذاتي عبر عدة محاور:

المحور الأول: أن النموذج الأمريكي نموذج فضفاض من حيث الالتزام الأخلاقي الذي يستعمله، فهو نموذج وضعي سلوكي ظاهري، يمكن للأفراد ممارسة جوانب الخير فيه ما دامت هناك رقابة وقانون، ومتى غابت التركيبة الإلزامية للقانون في أي مساحة ممارسة اجتماعية يمكن أن يغيب السلوك الأخلاقي. وبالتعبير الإسلامي هو نموذج اتباع للهوى، يقوم على استهلاك كل القيم، بلا حدود للإشباع إلا الحدود المالية كأساس، والشرعية طالما احتاجت الممارسة لضابط قانوني.

ومن هنا لا يمكن القول بأن النموذج الأمريكي يحتاج لمثل هذا القدر من الإعداد الذاتي للفرد للالتزام بتعاليمه.

المحور الثاني: استخدام ركائز القوة اللينة دومًا. فالمرحلة الاستعمارية المحدثة تقوم على بسط الهيمنة على الآخر. كيف؟ هذا يحتاج منا إلى التمييز بين صورتين من صور القوة:

الصورة الأولى : صورة السيطرة، وهي تقوم على استخدام ركائز القوة الصلبة، كالآلة العسكرية لقمع المخالف، وفرض اقتناع قسري بضرورة التماهي مع الطرح الأمريكي، أو على الأقل الإذعان له. ويستدعي ذلك استخدام أنماطعلاقات مثل علاقات الإكراه، والردع.

الصورة الثانية : صورة الهيمنة، وهي استخدام لركائز القوة الصلبة، كوسائل الإعلام جميعها، والمساعدات الاقتصادية، في إقناع الأهداف بفائدة ونفع وصلاح العلاقة مع الولايات المتحدة. ويستدعي ذلك استخدام أنماط علاقات مثل علاقات الإغواء، والاستدراج، والإقناع.

والصورة الثانية هذه هي التي يتم بها نشر النموذج. وهي آلة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقضية إحساس الأطراف الضعيفة بتأله الإدارة الأمريكية. فالإحساس بالألوهية إحساس قائم على الاقتناع والرضا، أكثر منه تأسيسًا على الرعب والخوف والردع والقهر.

المحور الثالث: استخدام ركائز القوة الصلبة لفرض السيطرة على من لا يرضى بالهيمنة الأمريكية طواعية. ولا يخفى ما في هذا السلوك من تجبر وتكبر وعلو ارتضى الله تبارك وتعالى أن يقصره على نفسه، وأن يمقت أن يمارسه البشر في إطار علاقاتهم الإنسانية.

مؤمنون وكفرة.. على الطريقة الأمريكية:

حرصت الولايات المتحدة على بسط هيمنة نموذجها على العالم، وذلك في إطار إعادة صياغة النظرية الاستعمارية المحدثة.

ومن وجهة نظر كاتب هذه السطور فإن النظرية الاستعمارية يمكن تجريدها في إطار ثلاث مراحل:

الأولى: مرحلة الاستعمارالعسكري المباشر.

الثانية: مرحلة الاستعمار عبر ثنائية: النخبة – المصلحة.

وهي مرحلة حرصت فيها القوى الاستعمارية على استخلاف مجموعة من النخب المتعلمة تعليمًا حداثيًا تتولى إدارة البلاد من بعدها، معتمدة على معيار المصلحة الذي يربطها بالقوى الاستعمارية السابقة. وهذا المنطق هو ما صرح به الرئيس الكاريزمي شارل ديجول بفرنسا حين صرح أمام المجلس الوطني الفرنسي بأن السبيل للاحتفاظ بالجزائر هو منحها استقلالها.

الثالثة: مرحلة التزيين مع قمع الهوامش المعارضة:

وفي هذه المرحلة استخدمت الولايات المتحدة أدوات أعلامها لعولمة نموذج الحياة الأمريكي، وتزيينه لدى سكان الكوكب؛ وهو ما يسهل عملية فرضه عبر المعاهدات الدولية، ومؤسسات التمويل العالمية، مع التحرك العسكري لقمع الدول الهامشية التي ترفض تقبل هذا النموذج طوعًا.

ففي المرحلة الثالثة هذه عملت الولايات المتحدة على تقسيم العالم إلى دول مؤمنة ودول كافرة لكن وفق المعيار الأمريكي. ولعل هذا ما اتضح من كلمة الرئيس بوش للرئيس الباكستاني برويز مشرف: “أمامك خياران: إما أن تدخل في حلف الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب، وإما أن نعيد باكستان إلى العصر الحجري”، وكقوله قبل ضرب أفغانستان: “من ليس معنا فهو ضدنا”. فلسان الحال هنا قوله: إما أن تؤمن بما يقوله الإله الأمريكي أو تكفر، وسندخل الكفرة بنا جحيمًا على الأرض يوازي جحيم الإله في السماء (شارك في الحوار حول النظرية التفسيرية الاستعمارية الشاملة).

 الفردوس الأرضي الأمريكي.. أو الجحيم:

كما أن لله سبحانه وتعالى منظومة جزائية، تتمثل في الجنة والثواب، أو النار والعقاب، فإن الإله الأمريكي يحاول السير على النهج نفسه.

ففي حرب العراق على سبيل المثال كان هناك نمطان للمثوبة. أما الجحيم فكان من نصيب بغداد، كما أنه من نصيب كل دولة ترفض الإيمان بالإله الأمريكي، طالما أن هذه الدولة المغضوب عليها ليس لديها القدرة على رفض هذا الجحيم.

أما الفردوس الأرضي الأمريكي فهو حالة الرخاء التي تبشر بها حركة الأمركة بعد تحرير التجارة ورؤوس الأموال، ناهيك عن الفردوسات العاجلة من منح ومساعدات توزعها هنا وهناك ضمانًا للموالاة، وترهيبًا من عواقب الكفر.

أ. محمد الخطابي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>