قال تعالى: {خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه، إنه كان لا يومن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين، فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين، لا يأكله إلا الخاطئون} (الحاقة).
عندما ينسل الناس من الأجداث, ويقومون لرب العالمين، ويأخذون كتبهم بالأيمان والشمائل، يفتح كل واحد منهم صحيفته، ويقرأ ما فيها، كلمة كلمة، وحرفا حرفا، ويفاجأ المجرمون بما تحويه صحائفهم وكتبهم : إنما قد عدت عليهم أنفاسهم وجمعت حياتهم، كل شيء مسجل فيها : حركاتهم وسكناتهم، أقوالهم وأفعالهم، حسناتهم وسيآتهم، سرهم وعلانيتهم… ويصور القرآن الكريم هذا الموقف الرهيب، وهذا المشهد العصيب فيقول: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} (الكهف : 49).
ويناقشون الحساب، فيعرف مصيرهم، إنه النار، إنه جهنم، ويأتي الأمر الإلهي للملائكة الموكلين بسوق أهل المحشر بعد الحساب إلى مصائرهم الأخيرة، وهم ملائكة غلاظ شداد، وصفهم عكرمة بأوصاف منها أنهم “سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد نزع الله من قلوبهم الرحمة، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة…”(1) لا يعصون الله أمرا، بل إن من خصائصهم أنهم يفعلون مايومرون، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون} (التحريم: 6).
يصدر الأمر الإلهي إذن بكل قوة ورهبة وهول وجلال للملائكة المكلفين: {خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} إنها كلمات قوية، وأوامر صارمة، تصدر من ذي العزة والجبروت، فيتدبرها الملائكة الموكلون، ويسارعون إلى تنفيذها.
أخرج بن أبي حاتم بسنده عن المنهال بن عمر وقال : إذا قال الله تعالى {خذوه} ابتدره سبعون ألف ملك إن الملك منهم ليقول: (أي يفعل) هكذا, فيلقي سبعين ألفا في النار وقال الفضيل بن عياض: إذا قال الرب عز وجل: {خذوه فغلوه} ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه(2).
يا للهول، ويا لشدة العذاب، إنها ليست النار فحسب، ولكنها السلاسل والأغلال يسحبون بها في الحميم، ويسجرون بها في الجحيم، قال تعالى: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا، فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل، يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون} (غافر: 70- 71- 72) وقال تعالى: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيرا} (الإنسان : 4).
قال مسدد بن قطن: حدثنا الدورقي، وحدثنا محمد ابن نوح المروزي، حدثنا محمد بن ناجية قال: صليت خلف الفضيل، فقرأ {الحاقة} في الصبح، فلما بلغ: {خذوه فغلوه} غلبه البكاء، فسقط ابنه علي مغشيا عليه، وبقي الفضيل عند الآية، فقلت في نفسي ويحك! أما عندك من الخوف ما عند الفضيل وعلي؟. زاد ابن أبي الدنيا وبقي الفضيل لا يجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاة خائف (3).
فاعمل صالحا أيها العبد المسكين وسارع إلى الخيرات، لتنجو بنفسك من هذا الموقف العصيب، والمشهد الرهيب، وابك على خطيئتك كما بكى الفضيل وابنه لعل الله يقبل دمعتك، ويرحم عبرتك، فتكون من الفائزين.
—————-
(1) مختصر تفسير ابن كثير 3/523
(2) مختصر تفسير ابن كثير 3/545
(3) سير أعلام النبلاء 8/444