نفحات – هجرة الأدمغة وانعكاساتها


1- طبيعة الظاهرة:

لقد هالني ذلكم العدد الكبير من الخبراء المهاجرين العاملين في الدول الغربية، وأعني بالخبراء هنا تلكم الفئة المتنورة من العلماء الباحثين والأطر المتخصصة في المجالات الحيوية التي تعود بالفائدة الكبيرة على الدول التي تستقطبهم وتستفيد من خبرتهم في تحقيق ما تتوخاه من تطور وتقدم، وتغني رصيدها وتجربتها في الصناعة والإنتاج بصفة عامة

وإذا كان العرب قد قالوا قديما: إذا ظهر السبب بطل العجب، فقد صدقوا غاية الصدق، ولكن على أهلها جنت براقش كما قالواأيضا، ولتوضيح الأمر نحدد مجال هذا الموضوع ومناسبته، فنقول إن الموضوع هو قضية التخلف والتقدم، وأسباب هذا ودواعي ذاك، إنه الموضوع الذي لخصه أحد المفكرين المسلمين في سؤاله المؤرق: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ل

ولا أود الإجابة بأن التخلف منظومة متكاملة، تسري في جميع مرافق الحياة لدى المجتمعات المتخلفة، فترى تجلياته في السلوك العام، وفي السلوك الخاص أيضا، في العمل، وفي طريقة الإنجاز، وفي كل مظهر من المظاهر، كما أن التقدم منظومة متكاملة أيضا لدى المجتمعات المتقدمة، تراه ظاهرا في الانضباط واحترام المواعيد، وفيتقدير الزمن وحسن استغلال الوقت، وفي إخضاع كل شيء لمنهج مضبوط، وفي الاكتفاء بالحق المقرر المحدد دون جشع ولا طمع في ما عند الآخرين، وفي رفض الرشوة وكل مظاهر الوساطات التي قد تضيع حقوق أصحابها لصالح من لا حق لهم، وفي الحرص على دخول البيوت من أبوابها دون استنجاد أو تدخل من كبير أو قريب ذي سلطة، فالحق حق والباطل باطل بالنسبة للجميع، لا فرق بين كبير ولا صغير، ولا بين قوي وضعيف، ولكل قيمته، ولكنه مكرم مصون الحقوق

وهنا تكمن المعادلة الصعبة، ويتجلى الفارق قويا بين إنتاجية كل من هذين المجتمعين، وهو فارق كبيريتزايد باستمرار، فتزداد الهوة عمقا بينهما، لأن ذلك الواقع المختلف بين هذين المجتمعين ينعكس سلبا أو إيجابا على أفراد المجتمعين بحسب نصيب كل منهم من التقدم أو التخلف، والإنتاجية مقياس جوهري في التمييز بين التقدم والتخلف، وليس المقصود بها الجانب الكمي أو العددي الذي لا قيمة له، بل المقصود بها نوعية الإنتاج وقيمته المادية والمعنوية، وما يرتبط بذلك من توافر شروط الجودة بكل معاييرها، بما يترجمه ذلك من صدق في العمل، وحرص على تحقيق الإنتاجية الإيجابية

وما تعانيه المجتمعات المتخلفة اليوم هو ذلكم الضعف الكبير في الإنتاجية من حيث الكيف والنوع، وما يترتب عنه من تراجع خطير في المردودية، ولا يعود السبب أو الأسباب إلى ضعف في الخبرة، أو جهل بشروط الجودة، أو غياب وسائل العمل والإنتاج، وإن كان لكل من ذلك نصيب ما، بل إن الأمر متشعب، والأسباب متعددة ومتداخلة تداخلا معقدا إلى حد كبير، وفي مقدمة الأسباب الظروف القهرية أو الاختيارية لهجرة الأدمغة والأطر ذات التكوين التقني العالي والمتوسط إلى ديار الغرب

وهذه الأدمغة وتلكم الأطر هي التي تمثل أعمدة الصناعة في الغرب، وهي عجلة التقدم هناك، وهي لا تعد بالعشرات أو المئات، بل بالآلاف، والإحصائيات صادمة بأعدادها الهائلة، من مختلف الدول العربية والإسلامية، تتوزع على مختلف ديار الغرب بنسب متفاوتة، وتتحمل مسؤوليات كبيرة في مجتمعات لا تربطها بها رابطة روحية ولا قومية، بل تربطها بها الروابط المادية بالدرجة الأولى، وظروف العيش التي يتصورون أنها هناك أحسن منها في أوطانهم، بما يرتبط بها من توازن بين الحقوق والواجبات في نظرهم

ومن التساؤلات التي تثار في هذا الصدد: الإنسان هو الإنسان، فكيف يكون منتجا هناك وعاملا من عوامل التقدم والارتقاء؟ ولا يكون على الدرجة نفسها من الإنتاج والإيجابية هنا في وطنه؟ هل يرجع الأمر إلى اختلاف ظروف العمل وشروط الإنتاج؟ أم إلى المناخ العام والمحيط المختلف؟ وهل الحوافز منعدمة في وطنه؟ وهل تتناسب تضحياته هناك مع قساوة الغربة التي يعانيها؟ ترى لو استطاع هذا الإنسان أن يعاني في وطنه ما يعانيه هناك، أكان بإمكانه أن يحقق في بلده ما يحققه في غربته؟ل

وللحديث بقية…

إعداد : د. علي الغزيوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>