معنى الوحي ومراتبه


الوحي لغة يأتي بعدة معان، منها : الإشارة السريعة الخاطفة التي هي أقرب إلى الإسرار منها إلى الإعلان، {فأوحى إِلَيْهم أنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيّاً} (مريم : 11) ومنها : الإلهام للأنبياء وغيرهم، وللإنسان وغيره، ومنها الإلقاء في الرُّوعِ والقَذْف في القَلْب.

أما الوحيُ اصطلاحاً فالمقصود به : إعلامُ الله عز وجل أنبياءَهُ ورسله بأمرٍ من أوامره، وتكليفُهم بتبليغ شريعته للناس ليعملوا بها طاعة لله تعالى، وشكراً لنعمة الخلق، ورحمة التوجيه.

وأحوَال الوحي تتلخص في :

أ- الإتيان في النوم كما في حديثابن إسحاق المذكور سابقا “فجَاءَني جبريل وأنا نائم” وكما قالت عائشة “أول ما بدئ به رسول الله الرؤيا الصادقة” وقد قال إبراهيم عليه السلام {إنِّي أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} فقال له ابنه: {افْعَل ماتومر} (سورة الصافات) فدَلّ هذا على أن الوحي كان يأتي الأنبياء في المنام كما يأتيهم في اليقظة.

ب- أن ينفُث في رُوعه الكلام نفثاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: “إن رُوح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجَلها ورزقها فاتّقوا الله وأجْمِلوا في الطلب”.

جـ- أن يأتيه الوحي في مِثْل صَلْصَلة الجرس، وهو أشدُّه عليه، وذلك ليستجمع قلبه عند تلك الصلصلة فيكون أوْعى لما يسمع.

د- أن يتمثّل له الملك رجُلاً، كما في حديث جبريل المشهور المرويّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

هـ- أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح.

و- أن يكلم الله تعالى الرسول من وراء حجاب في اليقظة، كما كلم الله عز وجل موسى، وكما كلم محمداً صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج.

وهذه الأحوال كلها يشير إليها قول الله تعالى: {وما كان لبشر أن يُكَلِّمه الله إلاّ وحْياً -قذْفاً وإلهاماً في اليقظة أو المنام- أوْ من وراء حجاب أو يُرْسِل رسُولاً -ملكاً- فيُوحيبإذنِه ما يَشَاء} (سورة الشورى) (انظر الروض الأنف 268/1)

الوحي للأنبياء ليس أحاديث نفسية وتأملات فكرية:

ليس المقصود بالوحي هنا التأملات الفكرية، ولا الإشراقات الروحية، ولا القرائح المنْقَدحة داخل الذات، وإنما هو شيء خارج الذات، لا دخل فيه المجهود فكري، بل هو شيء طارئ على الذات، بدون تهيؤ أو استشراف وتشوُّفٍ وتطلُّعٍ. إذْ لو كان كذلك لما كان هناك سببٌ للرعْدة والرُّعْب والفزع، وما كان هناك داعٍ لانقطاع الوحْي، بلْ ما كان هناك داعٍ للحُزْن على انقطاعه إلى حدّ محاولة التّردّي  من شواهق الجبال، كما تذكر بعض الروايات التي وإن قيل فيها ما قيل فهي تثْبِت شدّة الحزن على انقطاع الوحي، بل إن نزول سورة الضحى كان تخفيفاً ومحْواً لهذا الحزن الذي أثّر في النفس تأثيراً بليغاً.

إن التشكيك، في الوحْي من قِبل المستشرقين وغيرهم من أعداء الإسلام يُقْصد به هَدْم الإسلام من الأساس، إذْ فهْمُ الوحي على أنه مجرد تأملات فكرية -حسب مزاعمهم- يتْبَعُه أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليْسَ رسولا، ولكنه مُفكّر، وأن القرآن ليس من عند الله وإنما هو من تأليف محمد وفِكْره… الخ، فماذا يبْقى من الدّين إذا كان مُجَرّد أفكار بشريّة؟؟ وماذا يبْقى من عبادة الله تعالى باتّباع شريعته إذا كان القرآن ليْسَ صحيح النِّسبة والانتماء لله تعالى؟؟

وإذا كان المقام لا يتسع لذكر أنواع من الإعجاز القرآني الدّال على أنه فوق طاقة البشر جميعاً من الأولين والآخرين – والمجالُ مفْتوح لمن أراد أن يجرِّب- فلا بأس فقط من الإشارة إلى سورة الضحى ففيها الدّلالة الإعجازية على أن القرآن من عند الله عز وجل، فكيْف يُوحِي الإنسان بنفسه لنفسه، ويقول لها: إن ربّك ما أبْغَضَك ولا تركك، فمن يضْمن له المدد من عند الله تعالى إذا كان كاذباً؟ ومن أيْن يأتيه عِلْم الآخرة؟؟ بلْ كَيْف يرْضى أن يَفْضح الإنسان نفسه أمام الناس ويُعَيّرها باليُتْم والفقْر والضلالة؟؟ إن التأمُّل في هذه السورة الصغيرة يُقْنع المسلمين وأبناءهم أن هذا القرآن من عند الله العزيز الحكيم، لو وجَدُوا من المربّين والعُلماء والدّعاة والآباء من يَغْرس فيهم هذه الحقائق للتحصين ضدّ أباطيل أعداء الإسلام وخصومه، ليتديّنُوا بالإسلام عن اقتناع، ويُحبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقْتدُوا به بصدقٍ على أنه أفضلُ الخلْق وأحبُّهم لله الذي اختاره ليكون له شرف الخَتْم للرّسالة السماوية، واختار أمته ليكون لَها شرفُ الإرْثِ لرسالة السماء للأرض.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>