قال الشيخ أبو زهرة رحمه اللَّه تعالى:
تذكر كتب السيرة أن الكهان قد بشروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد كان في نِيَّتِنَا أن نُعرض عن ذلك الكلام، لِأَنَّه فتحٌ لباب الأوهام في سيرة سيد الأنام، نبي الحق والعقل وبَعْثِ المَدَارك نحو الحقيقة، من غير أن يسيطر عليها وَهَمٌ، أَو يتغلغل فيها خرافة ليست قائمةً على حُكْمِ العقل، أَو الخبر الصادق المنقول بأسانيد صحيحة
ولأن هذه الأخبارَ ليست ثابتة بسند صحيح يُطْمَأَنُّ إليه، ولأنه لَمْ يثبُتْ أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان يلجأ إلى الكُهان أَو يطمئنُّ إلى أقوالهم، ولأنه إذا كان الكهان قد قالوا شيئاً في البشارة بالنبي وكَانَتْ صادقةً، فإن ذلك قد يكونون عَلِمُوه من الكتب السابقة أَو أصحابها، وقد كانوا قَبْلَ البعثة علماءَ العرب، وربما يكونون قد أخَذُوا يبثون ما عندهم في شكل الكهانة، وفي سجع الكهان الذي نهى عنه النبي بعد بعثته
ولكن حَمَلَنا على الكتابة فيها:
أولا: لأن بعض كتاب السيرة من المحدثين تعرضوا لها مُصَدِّقين
وثانيا: لأن المستشرقين اتخذوها -أخبار الكهان- ذريعة لربط الدّعوة المحمدية بالكهان، والربط بين القرآن المنزَل رحمة للعالمين وبين سجع الكهان
وثالثا: لأن بعض الكاتبين توهم تبعا لهم أن النبي كان يديم السماع للكهان قبل البعثة فَوَجَبَ التَّصَدِّي
وبعد أن ذكر ما نُسب إلى سَيْف بن ذي يَزَن الحميري من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: “هذا كتابٌ ما فيه بلا رَيْبٍ حَقٌّ من حيث البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولَعَلَّهُ إنْ صَدَقَتْ النِّسْبةُ إلى سيف بن ذي يزن يكون مصْدَرُه ما وصل إليه من علم، فقد كان نَصْرَانِيّاً مُتَعَرِّفاً، ولم يكن وثنياً أميا، ولا يمكننا أن نقول إن ابن ذي يزن من الكهان، وإنْ وُجد الموضوع في كتاب”هواتف الجان”، ففي الواقع أن الحديث -كما ذُكر- ممن له علم بالكتاب، وكان مستفيضا مشهورا”
ذلك أننا “إذا وجدنا في عبارات الكهان ما يومئ إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فليس ذلك من هواتف الجان، أَو من علم الكهان، وليس مصدره الكهانة، ولكنهم علموه مما يجري على ألْسِنة الرهبان، وما تَنْطِق به كُتُبُهُمْ، “وما عُرفَ مِنْ عِلْمٍ”… فقد كان شائعا بين العرب أَنَّهُ سيكون نبي منتظر، وأن أهل الكتاب يذكرونه بينهم خاصة، ويُعْلِنُونَهُ عند الاقتضاء، للعامة، سواء في ذلك اليهود والنصارى، وإن كان إعلان النصارى أَوْضَحَ وأبْيَنَ، أما اليهود فكانوا يعلنونه -غالبا- عند الشدائد تنزل بهم في حروبهم مع الوثنيين، يعلنون مجيء النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتبهم تَثْبِيتاً لأنفسهم وتخذيلا لخصومهم، وتعلقا بالرجاء، وتشفيا من الأعداء بالمستقبل، فكان السَّبْقُ لأعدائهم، والتخلُّف لهم، فكان به المآل لغيرهم والحَالُ عليهم، وهم الأخسرون دائما إن شاء اللَّه تعالى”
ولكي يُثْبِتَ أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعيدٌ كل البعد عن التلقي والتعلم من الأحْبار والرهبان فضلا عن الكهان، قال:
إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يعيش في مكة وهي مدينة أمِّيَّةُ… وكان كأهلها لا يجلس إلى درس، ولا إلى معلم، وإذا كان بعض أهله يعلم القراءة والكتابة، فما كان محمد يَعْلَمها…، وما كان يمتازُ به على أهل مكة هو خُلُقه، وقوةُ إدراكه، وابتعادُه عن عبادة الأوثان واستنكارها
وإن أقصى ما كان يريد معرفته من الديانات هو ديانة إبراهيم عليه السلام، لأن آثاره قائمةُ بَيِّنَةٌ -خصوصا- الحج، على ما أُحْدِث فيه من بعض الانحرافات، والعرب كانوا يتفاخرون بانتسابهم إلى إبراهيم، ومحمد يعلم أنه جدهم، ونبي مُرْسَل، ويريد محمد مع تركه الأوثان أن يَعْرف ما كان يأمُرُ به إبراهيم من رَبِّهِ
وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُتحَدَّثُ عنه، ولا يتَحَدَّثُ هو معهم، وأنه عندما التقى ببحيرا الراهب صغيراً كان قومه يتحدثون عنه، ولم يعرف التاريخ أنهم ذكروا له ما حدث به الراهب… وهكذا إذا كان يتلقى الكلام في نبي منتظر، فإنه يتلقاه كما يتلقى قومه، ولم يُعرف أنه كانت له عناية خاصة بتاريخ النصارى، ولا بأخبار اليهود، ولا بشيء من ذلك
ولكن كتاب الفرنجة يدّعون أن محمداً كان قبل البعثة يتتبع أخبار اليهود، ويستمع إلى ما يتحدث به أحبار اليهود، ورهبان النصارى، وأنهم يرمون بهذا إلى أمرين:
أحدهما: إثبات أن محمداً ما وصل إلى ترك الأوثان إِلاَّ بتعاليم اليهود والنصارى
ثانيهما: إِدِّعَاء أن القرآن أخَذَ أخبار النبيئين وقصصهم من التوراة والإنجيل… مع أنه من الثابت أن قصص الأنبياء في القرآن هو الصادق الذي لا يُمْتَرَى فيه، وغيره فيه الفساد والضلال، كَخَبَرِ سُكْرِ لوط عليه السلام، ومواقَعَتِهِ ابنتَيْه، وكَزِنَى داوود بامْرَأَة قائد جيشه فهي أكاذيب ليست في القرآن
وقد تبعهم بعض المُغْتَرِّين بهم من الكُتَّاب عن حُسن نية، ولم يدركوا خبيئة نفوسهم، وخُبْثَ تفكيرهم
أَلاَ فَلْيَتْرُكوهم واستنباطهم، وليتَتَبَّعُوا أخبار النبي من كتب السيرة الدقيقة البعيدة عن الأوهام، وليتركوا أتباع الاستنباط الفاسد من غير خَبَرٍ تاريخيٍّ يؤيِّده، ولا سند صادق يزكيه
وليعلموا أن النبي عليه السلام كان بعيداً عن الأحبار والرهبان، وما كان يُصدِّق كهانة الكهان، ونهى بعد البعثة عن الاستماع إلى الكهان، وكان يستنكر سجع الكهان، ويستنكر تَصَرُّفَ من يحاكيهم.(1)ل
(1) من كتاب “خاتم النبيئين” لأبي زهرة رحمه اللَّه تعالى -بتصرف- 1/ من ص: 349 – 355