مجموعة من الآفات تعيق الإنسان المسلم عن بلوغ ما يطمح إليه من رفعة وعزة وتقلد المناصب الأولى في ركب الحضارة الإنسانية، وتورده مهاوي الهلاك والذلة والتبعية دون أن يستطيع رفع رأسه بكرامة، وتميته هوانا كل يوم، دون أن يجد من يسعفه أو يناقشه في قضاياه، بل لا يجد حتى من يستمع إليه .. من هذه الآفات آفة الاستعلاء . ومن أسبابها وأسباب تحكمها في الإنسان انطفاء جذوة الإيمان في نفسه . فيتجبر ويطغى ويكاد ينادي أنا ربكم الأعلى، وبخاصة إذا ابتلاه الله تعالى بشيء من قشور الدنيا وزينتها فيعتقد أنه يستحق تلك النعم الدنيوية بذكائه أو قوته أو غير ذلك فيتملكه الغرور والإعجاب بنفسه ويستعلي على الخلق، وعلى الفقراء والمستضعفين منهم، ويرى في معاملاته المستعلية والمتجبرة لهم إجبارا لهم للتذلل له واحترامه، وامتدادا لسيطرته عليهم وإشعارهم بالفرق بينهم. والحقيقة أن من نتائج هذا الاستعلاء تنمية مشاعر الكراهية والحقد بين المسلمين، وتعلم التربص ببعضهم البعض والمحاولات الدائبة لإسقاطهم.
والاستعلاء نوعان: عدم الإذعان للهدى واتباع الهوى والاستعلاء على المسلم.
1- أما عدم الإذعان للهدى واتباع هوى النفس وشهواتها فإنه استعلاء على الحق سبحانه بمخالفة منهجه تعالى والاستهانة بالذنوب والآثام مهما عظمت، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه البخاري: “إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه ..” والمسلم إذا استهان بذنوبه ومعاصيه واستهتر بها، وربما جاهر بها مثل المجاهرة بالزنا أو المجاهرة بالسرقة كالتحايل على عدم دفع مستحقات المال العام وغير ذلك، ينتهي به الأمر إلى أن يقسو قلبه ويعتليه الرين الذي ذكره تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}، وإذا قست قلوب أفراد المجتمع فماذا ننتظر منه ؟ وهل يستطيع أن ينهض من كبوته ويعالج نفسه من أمراض الجهل والفقر والغفلة والفرقة وغيرها من الأمراض التي تفتك به وقلوب أفراده قاسية لا تحس بغيرها ومحرومة من عون الله وتأييده ؟؟ . وقديما نصح قائد من قادة المسلمين أحد الولاة بطاعة الله كي تستقيم لنا الدنيا ونفوز بالآخرة ومما قال له: “..إنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا ..”. واليوم لا عاصم لنا للخروج مما نعانيه من قلق في الروح وضنك في العيش وتوترفي الأعصاب إلا اتباع هدى الله والاطمئنان به والعمل والصالح بأسباب النجاح والفلاح والغنى، وعدم الاستعلاء على الحق باتباع منهجه القويم وسنة نبيه الكريم، والاستسلام لأحكامه وتشريعاته التي تضيء الواقع وترشده . ولا أسرع لنا من الوقوع في الشرك دون أن ندري إلا الاستعلاء في الأرض على الحق سبحانه.
2- النوع الثاني من الاستعلاء هو الترفع على المسلم وإشعاره بالاستعلاء عليه .وما أكثر ما تعانيه مجتمعاتنا من هذا النوع الذي يربي فينا عقدة التفوق على المسلم وعقدة الضعف والذلة أمام غيره، فنسقط في مهاوي الغرور وضيق الأفق وقصر النظر، فلا يرى الإنسان سوى نفسه، ولا يحس إلا بما يقع في أفقه الضيق، ولا يشعر بنعمة الأخوة التي كانت من أبرز دعائم المجتمع الإسلامي الأول . لأن هذه النعمة أهدرها باستعلائه على الخلق كما ضيع نعما كثيرة حين عاث في الأرض فسادا لما استعلى وانخدع في نفسه يقول تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار} (إبراهيم.30) .و الاستعلاء يفتك بصاحبه أولا ثم بالمجتمع، لأن الإنسان يظل يدور في فلك وحده يريد أن يسبحوا الناس به وبمنجزاته وقدراته سواء كانت في الحلال أو في الحرام، فإذا وجد من يسبح باسمه مارس عليه كل عقده، وإذا لم يجد بحث عمن يلهج باسمه مقابل بعض الفتات الذي يتساقط من مائدته، والويل كل الويل إذا صادف أمامه إنسانا مهموما بأمور الدنيا ولقمة العيش ولم يقدم له فروض الطاعة . وهذه ليست مبالغة، وإنما تقريب لصور متعددة ومتكررة في مجتمعنا، وربما أبسط هذه الصور ما مر أمامي منذ أيام، فقد فوجئت بنداء أحد الأشخاص: يا السي فلان، يا السي فلان، التفت فلان ووجد أمامه إنسانا بسيط المظهر فقال له بغضب وتعال: “ألا تعرف كيف تخاطب ذوي المقامات العالية؟؟ على الأقل قل يا أستاذ فلان”، نظر إليه الآخر بدهشة ثم طأطأ رأسه وانصرف. ومن الصور الأخرى كذلك مشهد امرأة مسنة تجري وراء رجل منتفخ الأوداج وهي تتحدث بهمس، فجأة يلتفت إليها ويصيح غاضبا مشيرا بيديه :”لا وقت عندي لحكاياتك،مري علي في البيت في اليوم الذي خصصته للصدقة وقفي في الصف مع الآخرين”. إن مثل هذه المشاهد تتنوع و تتكرر، تفكك العلاقات الإنسانية الصادقة، وتفرز علاقات أخرى تسودها الكراهية والبغض، ونظل في مكاننا في أسفل الركب الحضاري نمصمص شفاهنا ونمضي لنبحث عمن نمارس عليه العزة ونترك الذلة كي نمارسها أمام الآخر المتفوق علينا بقوته.