افتتاحية – المصارحة بالحقائق -ولو كانت مرة- هي جوهر الحداثة عند الحداثيين


كم كانت الأصوات تتعالى في أواخر القرن الماضي مبشِّرة الإنسان بالألفية الثالثة وما سيحدث فيها من تكريم للإنسان في ظل العولمة والنظام العالمي الجديد المتسم بالقطبية الواحدة؟

وكم كانت الشعوب الإسلامية متشوقة لرؤية الوجه [الصبوح] المتلفع بقناع الحداثة الذي يستمد نَسَبه من الشرعية الدولية، التي أصبحت دين العصر، وشُهْرة الزعماء والمفكرين والقادة السياسيين.

وكان لهذه الشعوب الحق في التشوق للدخول في هذا العصر عساها تَنْعتق من الظلم الداخلي والخارجي، فتتاح لها الفرصة للتدَيُّن الحُر، والتعبير الحُر عن الفكر الحر، والتقاضي الحُر، والمراقبة الشعبية الحُرة، والانتقاد الحُرّ، والتعايش الحُرّ بين كل الأطياف السياسية والفكرية والاجتماعية بدون إقصاء ولا هيمنة ولا حِجْر ولا وصاية فوْقِيَّة لا تحتمل تجاوز الخطوط الحمراء.

ولكن – مع الأسف- دخلت الألفية الثالثة، فازداد افتراسُ المسلمين بدون حسيب ولا رقيب، وازداد اشتدادُ القبضة الخانقة عليهم، وازداد تشويهُ سمعتهم، وازدادت مُلاَحَقتهم ومراقبتُهم ومحاكمتهم وانتهاكُ حقوقهم وأعراضهم وكرامتهم، وازداد التشكيك في ذممهم ونواياهم كأنهم غيلانٌ من طينة الشر صنعت، لا ثقة في دعوتهم، ولا ثقة في سلوكهم، ولا ثقة في كلامهم، ولا ثقة في منهجهم، ولا ثقةَ في جمعياتهم وأحزابهم.

يظهر أن الحداثة فشلت فشلا ذريعا في تغيير حياة التخلُّف التي عاشها المسلمون قرونا وأجيالا نتيجة ابتعادهم عن دينهم، ولم تقدِّمْ للشعوب شيئا جديدا غير ما ألِفَتْه من الظلم والمحسوبية والمحاباة وتكميم الأفواه وتكسير الأقلام، وفرض الرأي، وإقصاء المعارض.

ففي جوهر الحداثة المنادَى بها، لاوجود لإنسان فوق القانون، وفي الإسلام “لا طاعة لـمَخْلُوق في مَعْصِيَة الخَالق”، ومن جوهر الحداثة محاسبة المذنبين والمجرمين صغارا كانوا أم كبارا، وفي الإسلام “لو أن فاطمةُ بنت محمد سرَقَتْ لقَطَع مُحمد يدها” وفي الحداثة لا مساس بأي إنسان حتى تثبت إدانته، وفي الإسلام “الأصل في الإنسان براءة الذمة”.

فمن أي مرجعية يغترف من يتطاول على حقوق الناس ويعتقلهم بدون تُهم ولمدة طويلة، ثم يُخْرجون من السجون بدون محاكمة، ولا يُعْتَذر لهم، ولا يُعَوَّضون، ولا يحاكم من اعْتَقلَهُم وأطلق سراحَهم بدون توضيح سبب الاعتقال، أو سبب السراح. هل هذه هي حداثة الألفية الثالثة؟ إن الحداثة الجديدة اخترعت الضّربة الاستباقية التي لا سند لها من شرع أو عُرف أو قانون من أجل تصفية الحساب مع المعارضين. وكِبَارُ قومنا من قديم الزمان أعطوا الورقة البيضاء لوُزَرَاء الداخلية كي يَنْتَهِكُوا الحرمات ويصادِرُوا حرية الإنسان وحقوقه بناءً على تقديس الحزب أو الحكم وسُوء الظَّنِ في الخَصْم المعارض. ووزراء الداخلية عند الحداثيين أدواتُ التنفيذ للقضاء النزيه، فلماذا أصبحوا في شعوبنا أُمّ الوزارات، وغول الوزارات؟ فهل ما تفعلُونه هو دين أو حداثة؟

لماذا نرى في دول الحداثة أن كبار المجرمين ماليا وأخلاقيا يحاكَمون وتفضح جرائمُهم، وفي شعوبنا من تطاول على مجرم كبير ففضح سرقته للملايين أو الملايير، أو فضَح لياليه الحمراء، ورَشَاوَاه المكدّسة.. يحاكم ويعتقل لسانه، هل هذا دين أم حداثة؟؟

إذا كان للمرأة – في دول الحداثة- حقُّ التشكي من مجرد التحرُّش الجنسي الصادر من الكبار بدون خوف على وظيفتها أو نفْسها من التعقُّب والمتابعة أو الاغتيال والاختطاف، ألاَ يكُونُ للرَّجُل والمرأة حَقّ التشكي من ظُلْم الإهانة، وظلم الاغتصاب، وظلم المتاجرة في الأعراض والمباريات، وظلم الاعتقال التعسفي بدون جرائم واضحة صريحة، مع أن ديننا واضح في صَوْن كرامة المرء حتى من السخرية والظن السيئ والتنابز بالألقاب، فما بالك بالتجسس وتكوين الملفات السرية، فهل هذا دين أم حداثة؟ل

فلماذا أغلب دولنا مازال يعيش في زمن أواخر القرن الأول الهجري الذي ظهر فيه من يصادر حرية المعارضة مصادرة تامة بقوله: “من قال لي اتق الله بعد مجلسي هذا ضربتُ عُنُقَه” أو بقوله “إني لأرَى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى” أو بقوله “مَن نبش عن قبرٍ دَفَنَّاه فيه حيا”.ل

فلماذا يعيشون في القرن الخامسَ عشَر الهجري أو القرن الواحد والعشرين الميلادي بعقلية الاستبداد الفرعوني التي ظهرت في أواخر القرن الأول الهجري؟ أو يعيشون بعقلية الإقطاع التي كانت سائدة عند أقطاب الحداثة اليوم؟ فلماذا تركوا مبادئهم التي أنقذت العالم من الانهيار في مستنقع الغاب، من مثل “وأمْرُهُم شورى بينهُم” ومثل: “أطِيعُونِي ما أطَعْتُ الله ورسُولَهُ فإن عَصَيْتُ الله ورَسُولَه فلا طاعة لي عَلَيْكُم” ومثل”رحِمَ اللهُ امرؤا أهْدَى إِلَي عُيُوبي”

لماذا تخلَّوا عن هذا، وتخلَّوْا عن شرعية الحداثة الـمُحَدِّثة -فعلا- لشعوب الحداثة، فلا هم يطبِّقُون الشرعية الربانية، ولا هم يطبقون النظرية الحداثية في السياسة والاقتصاد والمراقبة الشعبية؟

فأين يُمْكن أن تصنف دولنا وشعوبنا؟ هل في خانة المسلمين أم في خانة الحداثيِّين؟ والديمقراطيين؟ في خانة العابدين لله حقا وصدقا، أم في خانة العابدين للهوى حقا وصدقا؟ في خانة أصحاب رسالة أم في خانة العابثين المذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء؟؟

هذه كلها أسئلة لا جواب عليها، لأنهم يقلدون النظام العالمي الجديد المزدوج المعايير الذي يعتبر المدافع عن أوطانه وأعراضه وكرامته إرهابيا، والذي يستعمر الأوطان ويرفس كرامة الإنسان مدافعا عن نفسه. يعتبر الرئيس المختار من شعبه زعيم الإرهاب، والمُصَنَّعِين هم الرؤساء الحقيقيين

هذا هو فيروس الفساد الذي لا حَدَّ لاستشرائه، إلا إذا عاد الإنسان سويًّا يمشي على رجليه، أمّا ما دَام رَأْسُهُ في الأرض ورجْلاَهُ في السماء، يَمْشِي منكوسا بدون عقل ولا تفكير ولا هدي منير، فلا أمل {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّا على وَجْهِه أَهْدَى أمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً على صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} (سورة الملك)

اصطفوا -بصراحة- مع الإسلام أو الحداثة، إلا أنكم إن اخترتُمْ الاصطفاف مع الإسلام كنتُمْ رؤوسًا ولو مع قطع الرؤوس، وإن اخترتم الاصطفاف مع الحداثة كنتم أذيالا بدون رُؤُوس، اختارُوا ما شئتم إلى أن يأتي دور اختيار الشعوب،  إذ ذاك ينتهي عصرُ التكتم والتَّعْتيم على الحُفر القاتلة، والحقائق الصادمة، فتتحمَّلُ الشعوب والقيادة -معا- المسؤولية مهما كانت ثقيلة، ويومئذ نقول لأنفسنا : قد بدأنا السّيْر المناسب للقرن الخامس عَشَر.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>