الأمم المتحدة وأوهام الشرعية الدولية


إن المتتبع لمسار منظمة الأمم المتحدة منذ إنشائها إلى اليوم، سيلاحظ بأن تعاملها مع القضايا الدولية يتم بنوع من الازدواجية في المعايير، أو ما يسمى بسياسة الكيل بمكيالين.. فالانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان والشعوب في مناطق شتى من دول العالم -وخصوصا في العالم العربي الإسلامي- تؤكد زيف تلك الادعاءات الكاذبة حول الشرعية الدولية، التي ضاعت باسمها الكثير من الحقوق، وذهب ضحيتها الكثير منن الأبرياء.

وإذا كان من بين الأهداف التي أنشئت من أجلها الأمم المتحدة، الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، فإن هذين المبدأين لم يتحققا على أرض الواقع، بل إن العكس من ذلك تماما هو الذي حدث، حيث وجدت أشكال مختلفة من العنف والظلم الذي أصبح سمة من سمات النظام الدولي الجديد بسبب الفوارق بين الأفراد والشعوب وكان نصيبنا نحن العرب والمسلمين الحظ الأوفر والنصيب الأوفى. فإسرائيل التي تقوم بجرائمها الشنيعة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل وأمريكا- الحليف الاستراتيجي لإسرائيل- التي استعمرت العراق من أجل حفظ أمن إسرائيل وحماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة. لم تعيرا أي اهتمام للقانون الدولي والشرعية الدولية. وهذا ليس غريبا عن منظمة كالأمم المتحدة التي يسيطر على إدارة شؤونها اليهود، بل إن فكرة إنشائها تعود إلى اليهود أنفسهم، إذ بلغت نسبتهم بين موظفيها حوالي 60% يحتلون المواقع الكبرى والمناصب العليا.. (1) وبذلك، لم تقم هذه المنظمة الأممية بإصدار أي قرار حاسم وفعال بخصوص إسرائيل في خرقها للمبادئ والأعراف الدولية.. وكل القرارات التي صدرت ضد إسرائيل لم تنفذ في حقها بل كانت تقابلها بالاستهتار و اللامبالاة، هذا فضلا عن “الفيتو” الأمريكي الذي كان يشهر في وجه كل قرار يصدر في هذا الشأن.. الأمر الذي يؤكد بأن شعار “الشرعية الدولية” الذي تتمسك به الأمم المتحدة ما هو إلا خدعة سياسية وضرب من الخيال، يكذبه الواقع الذي كشف أوهام هذه الشرعية المزعومة. ومن تم غدت تلك الادعاءات التي تعتبر الأمم المتحدة الضامنة الوحيدة للاستقرار والأمن والسلم في العالم، والحارسة لحقوق الإنسان والأقليات، والمنقذة للدول في وقت الأزمات شعارات جوفاء لا تخدم سوى مصالح القوى الكبرى.. ولعل أكبر الدلائل وضوحا على ذلك، القرار 425 الشهير القاضي بالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، إذ أن الدولة العبرية ضربت به عرض الحائط، ولم تنسحب إلا بعد ما تكبدت خسائر جسيمة بسبب المقاومة الباسلة لحزب الله. وعلى العكس من ذلك تماما، نجد القرارات الصادرة ضد دول عربية وإسلامية قد طبقت جميعها على هذه الدول حرفيا، بل إن صياغتها كانت بطريقة فضفاضة تحتمل أكثر من تأويل، حتى تفسر تفسيرا يتماشى مع أهواء القوى الكبرى المسيطرة كما أن هذه القرارات لم تكن عادلة البتة. وخير مثال على ذلك، “العراق الشهيد” الذي لا زال جرحه لم يندمل بعد، حيث عانى كثيرا ولا يزال يعاني من أخطاء الشرعية الدولية، التي طلعت علينا بخطة جديدة لم تكن في الحسبان، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية خرقت كل المواثيق الدولية والشرعيات المتفق عليها عالميا، واتخذت قرارها المنفرد بالهجوم على دولة مستقلة ذات سيادة وعضو في منظمة الأمم المتحدة، لتظهر بأنها القوة الوحيدة التي تقود العالم وتتحكم في مصير شعوبه. وأن الأمم المتحدة ما هي إلا لعبة ماكرة تستخدمها لتحقيق أهدافها الإمبريالية.. ووسيلة للضغط على كل من لا يرضخ لأوامرها، وهو منهج جديد في الحرب الحضارية القائمة والموجهة ضد الإسلام والمسلمين.

وهكذا، فإن الطريقة التي تم بواسطتها احتلال العراق، أبانت عن بربرية حماة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكشفت القناع عن تلك الشعارات البراقة في ظاهرها، الممسوخة في حقيقتها، والتي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، كإقرار السلم والأمن الدوليين، وفض المنازعات بالطرق السلمية، وتحريم استعمال القوة أو التهديد بها.. فنبذت أمريكا كل هذه المبادئ وراءها، وركبت رأسها، وهزتها أحلام الاستيلاء على النفط العراقي والعربي، وامتلأت خيالات الصهاينة والصليبيين بصور الانتقام والتوسع بعد القضاء على القوى المهددة لأمنهم وسلامتهم، وأطلقت آلة الحرب المدمرة لتعيد المأساة والحزن للشعب العراقي وللعرب والمسلمين والإنسانية جمعاء.. وهذه المرة أكثر بشاعة وهولا وتصميما على تدمير قيم الخير وعناصر النبل في الإنسان. وكل ما بنته الحضارة الإنسانية خلال قرون وأجيال.

إذن، لم يبق مجال للشك في أن الشرعية الدولية التي طالما تغنى بها المنتظم الدولي، ما هي إلا أوهام وسراب يحسبها المظلوم حقا وعدلا، حتى إذا وقفا على حقيقتها وجد أمريكا وإسرائيل تطآن هذه الشرعية وتدنسانها.. ليتسنى لهما التصرف حسب ما تمليه عليهما مصالحهما الاستراتيجية. وبذلك، يظهر مدى عجز كل الدول أمام الطغيان الأمريكي والصهيوني، الذي يؤكد الحقيقة الواضحة والمرة في الوقت نفسه، المتمثلة في الهيمنة اليهودية على أجهزة الأمم المتحدة، وعلى كل مراكز القرار الحساسة. وهو ما أدى وسيؤدي حتما إلى إفلاس أخلاقي وانتكاس حضاري، وفضيحة مخزية لكل ما رددته أبواق الحضارة الغربية الحديثة حول الشرعية الدولية، وتفعيل دور الأمم المتحدة في فض المنازعات بالوسائل الحبية لتحقيق السلم والأمن في العالم.

أما فيما يتعلق بموقع ما للعرب والمسلمين في النظام الدولي الحالي، فلا وجود له من حيث التأثير على الرأي العالمي، لأن أوضاعهم المزرية لا تسمح بذلك، ما داموا قد تفرقوا شيعا وأحزابا، وأصبحت آراؤهم مشتتة، وليس لهم تصور واضح حول مستقبل أمتهم وشعوبهم.. وهكذا فلن يكون للمسلمين وجود حقيقي في العالم إلا برجوعهم إلى دينهم والإنابة إلى ربهم، والاحتكام إلى شريعته التي ارتضاها لهم. قال عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة، جزء من الآية 4). كما يجب عليهم أيضا أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تكون لهم كلمة مسموعة وهمم مرفوعة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: “تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وسنتي” (رواه أبو داود وابن ماجة عن جابر]).

كركين إدريس

————-

(1) عبد الله التل: خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية، المكتب الإسلامي، لبنان- بيروت. الطبعة الثالثة 1979، ص 240.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>