توسمات جارحة – إني مباه بكم الأمم


مر الصيف بضجيجه وصراخه، وكثرة أعراسه، وهذه قد تكون  ظاهرة صحية في مجتمعنا إذا كان العرسان قد أحسنوا اختيار من يشاركهم سفينة الحياة، وحددوا هدفهم من الزواج، ووعوا خطورة المسؤولية التي ارتضوا خوض غمارها .لكنها ربما تكون وبالا على أصحابها وتفريخا للتعاسة، وإضافة أفراد أخر للمجتمع لا يتمتعون بالاستقرار النفسي والعاطفي فيصبحون عالة ووبالا عليه، وتزداد بالتالي الهوة الفاصلة بين نهضتنا الحضارية ورقينا المادي والمعنوي، ويزداد الغني غنى والفقير فقرا والجاهل جهلا والمستسلم انبطاحا. ورب قائل وما علاقة كل هذا بالزواج ؟؟. إن العلاقة وطيدة وحميمة لأن الأسرة هي النواة الأولى للبناء الإنساني، وهي التي تحدد ملامح الشخصية الإنسانية في أي مجتمع من المجتمعات .وأي نهضة وأي رقي (النهضة والرقي المادي والروحي اللذان نطمح إليهما بوصفنا مسلمين وليس نهضة النموذج الغربي وإن كنا لا ننكر بعض إيجابياته) يستلزمان مجتمعا تناسل من أسرة سوية مستقرة يحدد استقرارها قيم التواد والتراحم والتساكن، ويتطلع أفرادها إلى تحسين مستوى أدائهم السلوكي والعملي كل لحظة، سواء مع خالقهم أو مع غيرهم من البشر. وأعتقد أن مثل هذه الأسرة لن تتحقق على أرض الواقع إلا بشروط ثلاثة:ل

1- الاختيار الصحيح القائم على الدين والخلق والحب. يقول صلى الله عليه وسلم للفتى المقبل على الزواج :”تنكح المرأة لأربع: لجمالها ولمالها ولنسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك”. إن المقياس الصحيح لحسن الاختيار هنا الدين، وهذا لا يعني إغفال الجمال والمال والنسب، فلكل واحد له حق اختيار المناسب له من هؤلاء، لكن شرط أن يكون المحدد للاختيار الدين .ويخاطب عليه الصلاة والسلام الفتاة المقبلة على الزواج: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إن لم تفعلوا تكن فتنة”،فأساس الاختيار هنا الدين والخلق، وهذا يعني أن قيام الأسرة الصالحة لن يكون إذا افتقرت لركنين أساسيين: هما الدين والخلق .لكن هناك ركن أساسي لتمتع الأسرة الصالحة الكامل بالحياة الزوجية هو الحب. فالزواج القائم على الحب في الله المستند إلى دعامتي الدين والخلق لا شك أنه سوف يقدم للمجتمع نواة متميزة يتناسل منها شخصيات إنسانية متميزة صالحة ومتوازنة مع ذاتها ومع غيرها، تتطلع دائما إلى تحقيق أهدافها وطموحاتها في الحياة من أجل العيش بكرامة والفوز بالآخرة، مهما كانت الصعوبات والظروف، ومهما تكالبت عليها المحن لأنها ستواجهها بطمأنينة وحكمة وحسن أداء

2- تحديد الهدف من الزواج. إن هذا الشرط يجب أن يكون قبل التفكير في الزواج نفسه. لأنه ما من معنى أن يدخل الإنسان إلى مشروع إذا لم يعرف الأهداف التي يسعى وراءها منه. وكذلك الزواج ، فإنه يجب تحديد الأهداف التي سوف يحققها الإنسان من ورائه. فلا يكفي رغبة الفتاة في التخلص من حياتها الرتيبة في منزل والديها أو افتقادها للحرية أو التخلص من نظرات المجتمع لكل فتاة تجاوزت العشرين ولم تتزوج لخوض غمار الزواج، لأنها قد تلتقي بما هو أفظع من الرتابة والملل، أوتجد نفسها في سجن أبدي أو تتخلص من نظرات المجتمع لتصطدم بنظرات أحد وأقسى. وكذلك لا تكفي رغبة الرجل في المتعة الجنسية أو إنجاب الأطفال أو خضوعا لرغبة الوالدين في تزويجه أو غيرها من الدوافع كي يتزوج لأنها مسألة حتمية في كل زواج لكنها لن تسعده وحدها، بل قد تكون من أسباب تعاسته وتعاسة زوجته. لذلك يجب تسطير مجموعة من الأهداف التي يريد الإنسان تحقيقها في هذا الزواج ويتفق عليها مه شريك حياته لبلوغها. وفي اعتقادي أن أهم هدف يجب أن أفكر فيه لبلوغه هو: الوصول إلى الجنة عبر مجموعة من الأعمال التي أطمح إلى تأديتها مع شريك حياتي: تحصين النفس وصونها من السقوط في مختلف الموبقات، رؤية ذاتي منعكسة في وجه زوجي ورؤية ذاته في وحهي للمساعدة في تجنب الأخطاء ومتابعة الطريق السوي، إنجاب أطفال أربيهم تربية سليمة قائمة على الإخلاص لله أولا ثم للأمة والوطن

3- الوعي الحقيقي بمستوى المسؤولية وخطورتها. وهو وعي يجب أن ينبع من ذات الإنسان لينمو ويستمر، لأن الزواج ليس حفل ووليمة وشهر عسل ثم نكد، وإنما هو تحمل لمسؤولية جديدة يجب أن يكون المقبل عليها أهلا لها بالصبر، بالنسبة للرجل ورحم من قال ليس البر كف الأذى عن المرأة وإنما تحمل الأذى منها، وبالنسبة للمرأة أيضا، أي الصبر على طاعته بالمعروف وعلى حفظه في بيته وأهله وماله، وبتفهم الآخر ومشاركته مشاركة كاملة في الرأي والمال وكل شيء، وعدم استغلال الرجل لمفهوم القوامة الخاطئ الذي يؤدي إلى تخلخل العلاقات الأسرية وفتورها وتفككها وعد استغلال ضعف المرأة والتلويح لها بورقة الطلاق كلما أخطأت أو غضب، وعدم إرهاق الزوج بمتطلبات تعجيزية ومساعدته ماديا بحسن التصرف والحكمة في الإنفاق و المساعدة فيه بالعمل الملائم لبيتها ولأسرتها. وقبل هذا وذاك وعي كل منهما بحقوقه وحقوق شريكه واحترامها وعدم التعدي عليها مهما كانت الظروف، ومعرفة واجباته وتأديتها على وجهها الصحيح

إن التفكر في هذه الشروط والمحاولة المستمرة لتحقيقها في حياة الإنسان ستضمن له إن شاء الله تعالى حياة مستقرة سعيدة، وتعينه على المساهمة في البناء الحضاري الذي نطمح إلى تجديد بنائه، وهو لن يتم إذا كان على جرف هار وإنما إذا قام على أسس متينة وثابتة، وحينذاك يمكن أن نكون في زمرة من سيتباهى بهم رسولنا الكريم أمام الأمم الأخرى.

الأديبة الدكتورة أم سلمى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>