مسلمو سويسرا.. صمت اقتصادي!


نجح مسلمو سويسرا في الوصول بعددهم إلى 300 ألف شخص من إجمالي سكان البلاد البالغ 7.3 ملايين نسمة، وفقًا لتعداد أجراه المكتب الفيدرالي السويسري للإحصاء عام 2001، إلا أن هذا العدد لم يتحول إلى قوة اقتصادية متماسكة تحمي المسلمين من أي قرارات توجه ضدهم..

فقد التزم رجال الأعمال المسلمون القريبون من دوائر صنع القرار السياسي في سويسرا الصمت، حينما رفضت سلطات “كانوتن فاليه” منح إمام مقدوني في عام 2002 ترخيص الإقامة لرعاية شئون الجالية المسلمة؛ بحجة أنه تلقى سنة دراسية في جامعات السعودية.

إن إلقاء الضوء على التكوين الاقتصادي لمسلمي سويسرا ومشاكله ربما يجيب على سؤال هام: لماذا صمت هؤلاء عن حماية أبناء ديانتهم والمطالبة بحقوقهم؟ كما يدفعنا ذلك إلى تلمس السبل المطروحة لتشكل هذه الأقلية “لوبي” اقتصاديا يحمي حقوقها؟

 فسيفساء عرقية:

يعتبر الإسلام ثاني أكبر ديانة بعد المسيحية بمذهبيها البروتستانتي والكاثوليكي في سويسرا. غير أن المسلمين هناك يمثلون فسيفساء عرقية فريدة؛ فأغلبهم ينحدر من تركيا بنسبة 43%، يليهم أبناء منطقة البلقان بنسبة 36%، أما المسلمون العرب فمعظمهم من منطقة المغرب العربي (المغرب والجزائر وتونس…) بنسبة 4%، ثم اللبنانيون بنسبة 3%، والبقية 14% من مختلف الدول الإسلامية مثل مصر وسوريا وفلسطين والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي وباكستان وإيران وبنجلاديش وأفغانستان والصومال وجنوب آسيا ووسط وجنوب أفريقيا.

وتوزعت المجموعات الأولى من المسلمين التي قدمت إلى سويسرا على فئتين رئيسيتين: الأولى: القوى العاملة من تركيا ومنطقة البلقان، وتوزعت بشكل رئيسي في الجزء المتحدث بالألمانية في شرق وشمال سويسرا مثل منطقة زيورخ الكبرى وبازل وبرن المعروفة باسم المثلث الاقتصادي الذهبي؛ نظرًا لقوتها الصناعية وانتشار فرص العمل فيها مقارنة مع بقية المناطق السويسرية. أما الفئة الثانية: المثقفون وأغلبهم من العرب والإيرانيين؛ فقد تمركزوا في غرب سويسرا الناطق بالفرنسية.

التكوين الاقتصادي:

غالبية مسلمي سويسرا اكتفوا بما عثروا عليه من وظائف في مختلف قطاعات الصناعة، وقلة قليلة منهم هي التي تمكنت في الستينيات والسبعينيات من العمل في قطاعات الخدمات كالمصارف وشركات التأمين والمؤسسات المالية، أو تمكنت من الوصول إلى مراتب الكوادر الإدارية في المؤسسات الصناعية.

كما تمكن البعض من صعود السلم الأكاديمي العلمي في مجالات التقنية والعلوم الإنسانية؛ وذلك إما لكونهم من المؤهلين جيدًا أو أكملوا دراساتهم العليا في سويسرا وأوروبا. ومع صعود الجيل الثاني من المسلمين الذي نشأ وتعلم في سويسرا لوحظ ظهور محامين وأطباء وصيادلة ومهندسين (لا توجد إحصاءات حول عدد المسلمين في هذه القطاعات؛ نظرًا لعدم وجود جهة تقوم بذلك).

مليونيرات سويسرا:

لكن مجموعة قليلة من المسلمين نجحت منذ منتصف الستينيات في التوجه مباشرة إلى العمل في المجال الاقتصادي الحر عن طريق تأسيس شركات تعمل في مجالات مثل: المقاولات، تجارة العقارات، إدارة الاستثمارات أو المضاربة في سوق الأوراق المالية، صناعة الساعات والمجوهرات، التجارة الحرة والتصدير والاستيراد.

وقد ساعدت القوانين السويسرية التي تشجع العمل الحر وتقدم أحيانًا تسهيلات لدعمه على سهولة تأسيس هذه الشركات التي تأخذ عادة واحدًا من الأشكال القانونية التالية: الشركات الاسمية البسيطة ولا يشترط فيها إثبات وجود رأس مال، الشركات ذات المسؤولية المحدودة، الشركات المساهمة.

وطبقًا لتقديرات غير رسمية، يُقدر عدد رجال الأعمال المسلمين المقيمين في سويسرا والذين تفوق رؤوس أموالهم المليون فرنك بحوالي ثلاثمائة، تركزوا في المدن الكبرى مثل جنيف ولوزان وزيورخ وبازل وبرن ولوتسرن وتسوك ولوغانو. وينحدر رجال الأعمال هؤلاء في الأصل من مختلف البلدان الإسلامية، أغلبهم من الدول الخليجية، وبعض المصريين واللبنانيين والسوريين، وقلة من أبناء البلقان والأتراك والإيرانيين، كما اكتسب معظمهم الجنسية السويسرية، أو يحمل جنسية أوروبية إلى جانب جنسيته الأصلية.

ومن ضمن الأسماء المسلمة اللامعة في عالم الأعمال السويسري ورثة الملياردير السعودي سليمان صالح العليان الذي تتراوح ثروته ما بين 10 و11 مليار فرنك سويسري مستثمرة في كبريات الشركات والمؤسساتالصناعية، وتقدر حصته في رأس مال بنك كريدي سويس بما لا يقل عن 5 مليارات فرنك، وهو ثاني أكبر بنك سويسري على الإطلاق.

وكذلك كل من الشيخ عبد العزيز السليمان وكريم أغاخان، وتتراوح ثروة كل منهما ما بين مليار ومليار ونصف، كما تقترب ثروة أسرة العريجي من حافة المليار. كما تفوق أرصدة تيمور علي رضا النصف مليار بقليل، مثل المليونير المصري هشام أمين النشرتي.

لا تعاون اقتصاديًّا:

وعلى الرغم من الأنشطة التجارية الهامة التي تزاولها هذه الأسماء اللامعة؛ فإنها لم تجتمع حتى الآن في مشروع واحد، اللهم إلا إذا جمع بينهم التعامل المصرفي مع أحد البنوك. كما لم تفكر هذه الأسماء في تقديم أي مشروع تستفيد منه الجالية المسلمة بشكل مباشر مثل شركة تأمين أو مدارس خاصة تجمع بين مناهج التعليم السويسرية ودراسة الدين الإسلامي واللغة العربية، أو شبكة متكاملة لتوزيع المواد الغذائية، أو حتى صحيفة تجمع أخبار الجالية على أساس عقائدي وليس على أساس عرقي.

وأهمية وجود مشروعات للجالية المسلمة بهذا النوع أنه يساعد على خلق لوبي اقتصادي يحمي حقوق المسلمين السويسريين. غير أن عدم وجود تعاون أو سقف واحد يجمع أصحاب العقيدة الواحدة جعلهم لا يستطيعون دعم أي مطالب للجالية المسلمة في مجتمع رأسمالي مثل سويسرا يكون للمال دائمًا كلمة مسموعة، حتى وإن كان هذا يحدث خلف الكواليس.

فعلى سبيل المثال لا يمارس أثرياء سويسرا من المسلمين أي ضغوط لحل مشكلة المقابر، بينما يتمكنون من حل مشاكل تتعلق بملكياتهم لعقارات خاصة بكل سهولة، حتى ولو كان في ذلك مخالفة للقوانين، مستفيدين من ثغرات قانونية عديدة يمكنهم أيضًا استغلالها في نصرة وتأييد الجالية المسلمة.

في المقابل يتبارى البعض منهم في دعم أنشطة وفعاليات ثقافية وفنية لا تمُت للإسلام بصلة؛ بحجة تعزيز تواجدهم، وإثبات اندماجهم في المجتمع السويسري.

علاوة على ذلك فهم يحرصون على الابتعاد عن وسائل الإعلام، والحديث عن وجودهم كعرب ومسلمين في سويسرا، وطرح موقفهم من القضايا الإسلامية عامة وفي أوروبا خاصة. ويستميتون في الدفاع عن غيرها من القضايا، حتى إن أحد الأثرياء العرب من أسرة خليجية شهيرة يتباهى دائمًا بأنه أكثر حبًّا لجنيف من أبناء المدينة نفسها.

وغياب التعاون بين رجال الأعمال المسلمين في المشروعات الاقتصادية يعود لعدة عوامل:

1- غياب الوعي التعاوني والتكاملي بين أبناء العقيدة الواحدة، والنظر إلى المصلحة الشخصية فقط.

2- الحزازات القومية المتوارثة التي نقلها المسلمون معهم أينما حلوا، وعقدة “التعالي” و”الأفضل” بين بعض القوميات مثل الأتراك وأبناء البلقان أو بين الجاليات العربية نفسها، ناهيك عن عدم الثقة بالأفارقة والتشكك في نوايا الآسيويين.

3- عدم الرغبة في التعاون تخوفًا من وقوع طرف تحت سيطرة طرف آخر، لا سيما بين العلمانيين والملتزمين، وما يصحب ذلك من فقدان الثقة المتبادلة.

4- تخوف الكثيرين من البوح بهويتهم الإسلامية أو العربية أمام الرأي العام؛ اعتقادًا منهم بأن ذلك قد يعرقل عملهم التجاري، وتزايد هذا التوجه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ حيث يتفادى رجال الأعمال المسلمون وسائل الإعلام، ويرفضون الحديث إليها، حتى العربية منها، وقد حاولنا مع أكثر من شخصية إجراء حديث صحفي؛ فكان الجواب دائمًا بالرفض والاعتذار دون إبداء الأسباب.

رجال الأعمال الصغار:

وخلافًا لمجموعة الأثرياء المسلمين غير المتحدين اقتصاديًّا؛ فقد بدأت فئة أخرى من المسلمين تحت ضغط تقلص فرص العمل وأزمة البطالة التي تشهدها سويسرا منذ التسعينيات (معدل البطالة 1.9%)، وكان الأجانب أول ضحاياها.. بدأت هذه الفئة في تكوين أنشطة تجارية خاصة بها، ولكنها محدودة جدًّا، وتعمل في مجالات مختلفة، مثل:

- مكاتب حجز تذاكر الطيران ويتراوح عددها بين 43.

- منافذ لبيع وتوزيع بعض المأكولات الجاهزة والأطعمة العربية أو الشرقية، وهي في حدود 100 منفذ تتركز في المدن الكبرى، مثل: زيوريخ وجنيف وبازل وفنترتور وبرن وسان غالن ولوتسرن.

- مكتبات لبيع وتوزيع المطبوعات والمنشورات لا يزيد عددها عن 10، أغلبها تابع للمراكز الإسلامية.

- ورش لإصلاح السيارات.

- القيام بأعمال الطلاء والنظافة.

ورغم أن هذه المشاريع قد حلت إلى حد ما مشكلة البطالة؛ فإنها أيضًا تفتقر إلى التعاون بين أصحاب المجال الواحد؛ حيث إن الكثيرينيخشون من الاندماج مع أصحاب النشاط المتشابه؛ وذلك لعدم الثقة، وخوفًا من ابتلاع أحدهم للآخر، وهو ما يبدد الآمال -على الأقل في الوقت الراهن- في التفكير في اندماج بعض الأنشطة لتوسيع نشاطها في أكثر من منطقة، أو لتتخطى الحدود لتشمل -على الأقل- دول الجوار التي تزيد فيها أعداد الجالية المسلمة عن تلك المتواجدة في سويسرا.

كما لم يفكر أصحاب هذه المشاريع الصغيرة والمتوسطة في تشكيل اتحاد لهم يناقش قضاياهم، ويكون فرصة لتبادل الأفكار والخبرات. علاوة على أن نسبة غير بسيطة من أصحاب هذه المشروعات الصغيرة والمتوسطة لا يسعونإلى توسيع دائرة نشاطهم، ويعتبرونها مرحلة انتقالية؛ حيث لوحظ أن عددًا منهم يترك نشاطه التجاري بمجرد العثور على عمل ثابت لدى إحدى الشركات، ويعتبرون هذا هو الضمان الأقوى للحصول على دخل شهري ثابت.

شروط للقوة الاقتصادية:

إن تكوين مركز ثقل اقتصادي للمسلمين في سويسرا يتطلب أمورًا عدة، أبرزها: الوعي بأن التكتلات الاقتصادية أصبحت هي محور القوة التي لا غنى عنها للحصول على الحقوق، بدلا من أن يبقى مسلمو سويسرا مجرد طاقة استهلاك في الاقتصاد السويسري، وتعجز في الدفاع عن متطلباتها، وتكتفي فقط بما يمن عليها به الآخرون، ويشار إلى أن قوة الاستهلاك للمسلمين تبدو في قطاعات الخدمات مثل التأمين بشقيه: الصحي والعقاري، وهما إجباريان على جميع المواطنين، إلى جانب قطاع الاتصالات.

غير أن هذا الوعي بهذا التكتل الاقتصادي يعتمد في المقاوم الأول على أدوار اجتماعية تقوم بها الأسرة في التوعية والتربية، وكذلك المساجد والمراكز الإسلامية في القيام بأنشطة مشتركة. ولعلّ النموذج الإيجابي في هذا السياق هو جمعية الشباب المسلم، التي تهدف أولاً إلى التنسيق بين البراعم المسلمة في سويسرا في أنشطة ثقافية ورياضية مشتركة، وكذلك الكشافة الإسلامية وجمعيات الفتيات المسلمات، التي تقدم نموذجًا لاحتواء الشابات المسلمات في مخيمات تثقيفية هادفة دون الالتفات إلى أصولهن العرقية.

قصارى القول: إنه ليس أمام الجالية المسلمة في سويسرا سوى التخلص من العقد العرقية والتكاتف لحماية الأجيال المستقبلية، بعد أن بات واضحًا للأغلبية أن العودة إلى الوطن الأم يبتعد أكثر فأكثر، ومن ثَم ضرورة بناء واقع اقتصادي قوي ليكون هناك مستقبل أفضل للأجيال الشابة المسلمة.

 جنيف – تامر أبو العينين

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>