قصيدة المديح النبوي في العصر المريني – مالك بن المرحل (نموذجا)


إن الشعر في العصر المريني ، يتميز بسهولة الألفاظ ووضوحها، وشاعرنا ابن المرحل نموذج هذا العصر، جنح إلى التعبير عن معانيه وأفكاره بألفاظ سهلة موحية، وهناك بعض القصائد استثنيت من هذا الحكم حيث وظف رصيده من غريب اللغة، وهذا مايؤكده معاصره ابن خلاد حيث استعان مالك على ذلك “بالعلم بالمقاصد اللسانية لغة وبيانا وعربية وعروضا وحفظا واضطلاعا إلى نفوذ الذهن وشدة الإدراك وقوة العارضة”(2) كما وصفه ابن القاضي المكناسي بقوله : “شاعر رقيق مطبوع سريع البديهة، رشيق الألفاظ ذاكر للآداب واللغة”.(3)

أما نموذج غريب ألفاظه، وهو قليل، ما جاء في قصيدته الطائية في مثال النعل النبوية فهي ألفاظ غير مؤلفة وغير متسقة مع معظم معجمه الشعري.

أنَافِرَةٌ بعد النزع عن الصبا       وللشيب شهْب في عذاريكَ أو خط

رأيت مثال النعل نعل محمد      َتَمَّثَلت ومــالي غــيــر ذلك أســقــط

رأيت مثالا لَوْرَأته كـــرؤيتي      نجوم الدُّجى والليل أسود مُشْمَطُ

أرى لثمه مثل التيم مجزيا        فألثمه حـتى أقــــــــــــــول سينغُط

فهو استعمل ألفاطا حوشية وكلمات غير مألوفة، وهذا يدل على سعة حفظه للغريب. أما سائر ألفاظه في أشعاره فهي سهلة واضحة، وهذا ما جعل الزبير من أعيان القرن السابع يقول بأنه ” شاعر رقيق مطبوع”(4). وذكر معاصره ابن خلاد أنه ” الجامع بين سهولة اللفظ وسلاسة المعنى، وإفادة التوليد وإحكام الاختراع وانقياد القريحة واسترسال الطبع، والنفاذ في الأغراض”(5)

ودليلنا على هذا لاميته المسماة “نظم السير في مدح سيد البشر”

ولــــولا النبــــوة ضل الــــورى         ومن لم ير النجم بالليل ضل

ولم يبق في الأرض شرك بعهد        سوف السيف، أو سنة تُمَثَّلْ

ويا سيد الناس أنــــت الشفيع        وأنــــت العمـاد إذا العبــد زل

فصـلــى عــلـيــك إلاه السـمـــا          صـــــلاة مــضـــاعفة تتصــل

صلاة نصيب بها الشرفات        إذا نفحت وتطيب الأَصَلْ

ويظهر جليا أن جل الكلمات لاتحتاج منا الرجوع إلى المعاجم، وبناء على ذلك، فالمعنى سهل المنال لايتطلب جهدا كبيرا للفهم، ومن خلال هذه القصيدة يتأكد لنا أيضا ما ذهب إليه ابن خلاد، كما أسلفت الذكر.

إن التكرار بالاصطلاح القديم أو التشاكل في الاصطلاح الحديث، ظاهرة جلية في نبويات العصر المريني، وقد كان عنصر التكرار حاضرا في نبويات العصر المرابطي؛ والقاضي عياض خاصة في بعض نبوياته، وقد نجد هذا العنصر متواجدا أيضا عند بعض الشعراء المتصوفة ” الذين أصبحوا يتخذون من التكرار في الصياغة الشعرية ضربا من الانسجام مع التيار الصوفي والطقوس التي أصبحت تحيط به من تكرار في الأوراد والأذكار” مثل تكرار عبارة “ياخير” في بداية كل بيت، وقد كان غرض شعراء بني مرين من التكرار لفظة بعينها في بيت من الشعر كما نجد ذلك في شعر مالك بن المرحل، في لاميته حيث يقول :

فصلى عليك إلاه السماء          صــلاة مضـــاعفة تتصـــل

وصلى عليك إلاه السما           صلاة مدى الدهر لاتنفصل

وهكذا تستمر القصيدة في انتهاج هذا المسلك من التكرار، لاعلى مستوى العبارات فقط، ولكن على مستوى تشاكل الكلمات كذلك؛ حيث يقول :

فيا حســرة سـرت عــن ذراع           وصارعت الصبر حتى انجدل

ويا كــربة كـــــربت أن تذوب           لها الــــــراسيات بحــر الظلل

وياسيد الناس أنت الشفيع          وأنـــت الـعـمــــاد إن العـبـد زَلْ

حيث تكررت أداة النداء ثلاث مرات. وهذا هو معروف عند البوصيري أيضا :

كيف ترقــــى رُقَيَّكَ الأنبيــــاء         ياسماء ماطاولتها سماء

لم يساووك في عَلاَكَ وقد حا         لَ سَنًا منك دونهم وسناه

وقد كان لظاهرةالتكرار مساهمة في إيقاع قصائد مالك بن المرحل، وهذا ما يتعلق بالموسيقى الداخلية، بالاضافة إلى الجناس والطباق، أما الآن فانتقل إلى الأوزان والقافية في نبويات شاعرنا ابن المرحل.

الأوزان والقافية

لقد تقيد ابن المرحل بعمود ا لشعر العربي، كغيره من شعراء المشرق والمغرب” فيأخد في جل أعماله إن لم نقل كلها بالابحر الخليلية المعروفة وهل أميل إلى استخدام الأوزان والأبحر الطويلة ذات التفعيلات  المتعددة التي تلائم نفسه الشعري المتدفق.. فإننالانكاد نعثر فيما انتهى إلينا من آثاره إلا على الأوزان الطويلة”(5) وخاصة بحر الطويل الذي ورد في القصائد ذات المطالع التالية :

إلى المصطفى أهديت غُرَّ ثنائي

فيا طيب إهدائي وحسن هدائي(6) (بحر طويل)

أمـــــالي إلــــى قبــر النبي مبلغ

ســــــــلا ما؟ فقد أفنى الزمان دمائي(7)

أدمعك أم سِمْطٌ وقـــلــبك أم قُرْطٌ

وشـــــوقك أم سِقْط وجسمك أم خط(8)

فحق لنا أن نعتني بولادة      ونجعل ذاك اليوم خير المواسم(9)

أما الكامل فورد في قصيسدة واحدة مطلعها.

(ألف) أجل الأنبياء نبيء

بضيائه شمس النهار تضيئ(10)

وكذلك البسيط الذي ورد في رائيته التي مطلعها

الحمد لله شُكر بَان في البشر

ودار في النسل من أنثى ومن ذكر (بحر بسيط)

أما اللامية فقد أتت على بحر المتقارب ومطلعها كما سبقت الاشارة إلى ذلك،

رأيت الفتى لايمل الأمل ** وإن عمل الخير مل العمل

فحسب هذه القصائد التي تمكنت من الوصول إليها وربما لم أصل إلى غيرها- يتضح لنا استعمال الشاعر للبحور الطويلة خاصة الطويل في المرتبة الأولى ثم البسيط والكامل، وركوب مثل هذه البحور يدل على:

أولا : إن الشاعر المريني في أغلب الأحيان كان فقيها، فهو محافظ متمسك بالتراث بصفة عامة، ولذلك حافظ على عمود الشعر.

ثانيا : مكانته الفقهية تتطلب منه أن يكون هادئا رزينا خاصة حينما يتشوق إلى زيارة الديار المقدسة، وهذا ما يتوفر في البحور الطويلة.

ثالثا : طبيعة موضوع المديح النبوي تتطلب مثل هذه الأوزان لأنها تستوعب مضامين ومعاني هذا الموضوع، خاصة إذا سلمنا، بما ذهب إليه بعض الباحثين في علاقة الوزن الشعري بالموضوع.

إن بحر الطويل ا لذي استعمله ابن المرحل بكثرة (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن) قد استعمله العرب كثيرا حتى سمي بالركوب، ويقول عنه عبد الله الطيب ”  إنه بحر الجلالة والعمق والجد، وبما أنه كذلك فإن مجرد العبث الغزلي لايكاد يستقيم فيه وإنما يصلح فيه الغزل إذا مازدته نفحة من جد وعمق “(11) ومثال ذلك قول شاعرنا :

أزاهير روض تُجتنى لعِطارة      وأسلاك دُر تُصطفى لصفاء

أكاليل من مدح النبي محمد      بها حازت الآداب كل بهاء

أضفت إلى ميلاده غزواتِه       وما عَنَّ من آية وإياء

والملاحظ أن الشاعر لجأ إلى بعض الزحافات والعلل مثل الحذف (مفاعي بدل مفاعيلن).

نظمه على المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعولن) من قصيدة طويلة يعدد فيها  صفات النبي مطلعها

رأيت الفتى لايمل الأمل       وإن عمل الخير مل العمل

ولولا النبوة ضل الورى        ومن لم ير النجم بالليل ضل

فالعروض في البيت الأول محذوفة والضرب محذوف. أما القافية فهي مرتبطة بالوزن ولايستقيم الشعر إلا بهما وهي حسب تعريف الخليل من آخر ساكن في البيت إلى أول ساكن يليه من قبله، ومن القوافي المستعملة في نبويات شعراء العصر المريني القوافي الذلل وأكثرها شيوعا حرف ”  الدال ” والعين ” و “الميم ” فحرف الباء واللام وألف الإطلاق، ثم الكاف والجيم، مثل ذلك عند شاعرنا لاميته :

فصلى عليك إلاه السما           صلاة مضاعفة تتصل

وصلى عليك إلاه السما           صلاة مدى ا لدهر لاتنفصل

صلاة تطيب بها الشرفات         إذا نفحت وتطيب الأصل

الخاتمة

إن قصيدة المديح النبوي تعتبر امتدادا للسلفية، كما عرفها المغرب منذعهد المرابطين، أما في العصر المريني فقد عرفت تطورا لم تشهده من قبل خاصة من الناحية الكمية، ففرضت نفسها كغرض قائم بذاته له أعلامه وخصائصه نظرا لسيطرة الاتجاه الروحي وسيادته بالمجتمع المغربي في هذه الفترة التاريخية، وتعد قصيدة ا لمديح النبوي كمرجع سابق عن مميزات الثقافة المغربية ذات الطابع الروحي، وقد عوضت ذلك النقص الذي كان يعرفه الأدب  المغربي في بعض الأغراض الشعرية. وقد أغنى شاعرنا ابن المرحل الخزانة الأدبية بأشعاره الجميلة والمفعمة بنفحات الروح الاسلامية من نبويات ونعليات وغيرهما، وسيظل هذا الإنتاج الأدبي البارع شاهدا على فحولة ابن المرحل، وسيبقى بذلك مفخرة لعصره، بل وللأدب العربي عامة، تلك التفاتة ونظرة في آثاره لما تميز به شعره من رقة وعذوبة ثم ما جمعته نبوياته وتعلياته من إبداع رائع.

فكانت هذه الالتفاتة المتواضعة تهدف إلى نفض الغبار عن اسم شاعر، وذلك أضعف الإيمان، يكاد جل طلبة الأدب العربي لايعرفونه. وتلك وقفة نابضة بروح الواجب والمسؤولية نحو تراثنا الاسلامي العربي، وقفتها على بعض جوانب حياة ابن المرحل وشعره، وهناك شعراء وأدباء آخرون في درجته.

—————

(1) ” ذكريات مشاهير رجال المغرب ” م. س. ص 19

(2) جذوة الاقتباس فيمن حل من الإعلام مدينة فاس م. س. ج 3/ص 304

(3) المصدر نفسه، ج/ص 305

(4) الاحاطة في أخبار غرناطة م. س 3/311

(5) جذوة الاقتباس ج 3/ ص 305

(6) مجلة كلية الادب (تطوان)، العدد الثالث، ص 526

(7) ”  ذكريات مشاهير رجال المغرب ” وهذه القصيدة تسمى بالوسيلة الكبرى عدد أبياتها حسب هذا المرجع عشرون بيتا ص 17

(8)  المرجع نفسه عدد أبياته عشرة ابيات ص 19

(9) المرجع نفسه عدد أبياتها : ستة عشر بيتا ص 20

(11) المرجع نفسه عدد أبياتها ست وثمانين بيتا ص 12

(12) المرشد إلى أشعار العرب م.س. ص44

 بلقاسم بوعزاوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>