لكيلا تاسوا على مافاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم


إن الوقت لايزال مبكرا -جدا- لمعرفة ما وقع؟! وكيف وقع؟! فهل تكررت مسرحية” ابن العلقمي” المشهور-تاريخيا- أنه هو الذي تآمر سرا مع التتار على نظام الحكم ببغداد، فزين للخليفة التصالح مع العدو، والترحيب به والتوقيع على معاهدة الصلح، فكان ذلك الخروج خروجا لزيارة القبور، التي كثيرا ماأَلْهَتْ عنها حياة القصور.

إن ما جرى يوم الأربعاء 9/4/2003 مذهل بكل المقاييس، فهو بكارثيّته لايساوي تدمير أفغانستان ولاخامس يونيو 1967، ولا إحداث ثغرة ” الدفرسوار” سنة 1973 ولاماقبلها وما بعدها في الكوارث، إنها تجربة جديدة في فن المكر والدهاء والعبث بمصير الأمة وآمالها وطموحاتها المشروعة الأصيلة، والأكثرُ إيلاما أن ماوقع، وقع على عين من جعلهم الله تعالى مسؤولين عن مصير الأمة،  فلقد وقفوا موقف المتفرج الشاهد، أو موقف المتفرج المبارِك الذي يرقص رقصة الموت في مأتم التوديع لكل معاني الشرف والرجولة، وفي حفل الختام المقرف والمقزز لكل أساطير القومية والقوميين، والتقدم والتقدميين، والبعث والبعثيين، والعلمانية والعلمانيين، والوطنية والوطنيين، فلقد سقط القناع وأسفر الصبح لكل ذي عينين مبصرتين.

وكيفما كان وقع الصدمة على النفوس التي لم تكن تحلم أبدا ببقاء النظام العراقي البائد، ولكنها كانت تطمع في نهايةٍ  فيها نوعٌ من الشرف وحفظ الكرامة لدولة تنتمي للعالمين العربي والإسلامي، فضلا عن انتمائها لدول عدم الانحياز، وأكثرُ من ذلك انتماؤها لقائمة المستضعفين ضحايا الظلم غير المقنع، والاستكبار المتأله المتجبر في غير خجل ولاوجل، وفي غير شعور بالذنب أو خزي الضمير، لأنه استكبار أصمُّ أعمى  لاوازع له ولا ضمير.

كيفما كان الواقع فلابد من تسجيل حقائق تبقى للعبرة والتاريخ :

وأولها  : أن الحرب أو الغزو لم يكن شرعيا بمختلف الموازين وإنما كانت مجرد نزوة لإطفاء شهوة النهم والتسلط.

وثانيها : أن المعارضين للحرب – تحت مختلف الدوافع- لم يكونوا مستعدين – في معارضتهم- للذهاب إلى حد التهديد بالتدخل، أو التزويد بالدعم والمساندة، لوقف الآلة الجهنمية الظالمة.

ثالثها : أن أصحاب الحق الشرعي في الدفاع والمساندة من  العرب والمسلمين كان بإمكانهم فعل الكثير لو قدروا المسؤولية حق قدرها، وقدروا شهادة التاريخ حق قدرها. ولكنهم لم يفعلوا، فكتبوا لأنفسهم شهادة الموت السياسي والشعبي إلى أن يأذن الله بالبعث للشعوب الخارجة من قبور الأرحام والأصلاب المومنة.

ورابعها : أن النصر  المسروق والمغصوب وغير المؤزر مُنح لمن لايحسن التصرف، ولايحسن الشكر، فكان التصرف بعد التمكن جريمة في حق  التراث والأمن والعلم والإنسانية تعادلُ جريمة الحرب إن لم تَفُقْها.

وخامسها : أن وقوف الشعوب والجماهير والأحزاب والعلماء مع الشعبالعراقي لم يكن تزكية للدكتاتورية، ولا إقرارا للظلم الممارس  من النظام العراقي ا لبائد، فالظلم ظلم، والعدوان عدوان من أي جهة أتى، ولم يكن حبا للرَّمز الظالم المتوحش، ولكن كان ذلك التأ ييد بغضا لما هو أسوأُ وأظلمُ وأوحشُ، على قاعدة “رعي الجِمَال في البلاد الإسلامية للمسلمين أحب من رعي الخنازير للمسيحيين في بلاد الكفر”.

وسادسها : الانتصار العسكري الذي وقع يعتبر من جهات عديدة اندحارا كبيرا للغالب القاهر، وهذا هو الفرق الجوهري بين انتصار الاسلام وغيره من الانتصارات، فانتصار الإسلام يعتبر فتحا للقلوب، وهدية للنفوس، وترسيخا لكل معاني الخير والمشروعية. أما هذا الانتصار فإنه اندحار للمشروعية الدينية والقانونية والإنسانية،  واندحار للمشروعية الدولية كما أنه فتح للفوضى وسيادة قانون الغاب،  فيكون الإنسان ارتد في القرن الواحد والعشرين إلى قرون ماقبل التاريخ. فأي انتصار لحضارة القوة والغلبة؟؟ وأي انتصار لمن تاريخه عبارة عن سلسلة طويلة من الحلقات الصدامية تهافتا على الدنيا وشهواتها؟! وأي انتصار لمن يعلن بكل صراحة ووقاحة أن مصلحة بلده فوق كل اعتبار، ولوديست في سبيلها مصالح العالم بأسره؟؟. إن الانتصار الحقيقي هو الانتصار على  أهواء النفس وشهواتها، فلا ثأر ، ولاحقد، ولاانتقام، ولاانتهاك لحرمة دين أو مال أو عرض أو نفس.

ويبقى بعد هذا حقيقة ربانية خالدة وهي قول الله تعالى {وإن جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُون} فإذا لم يوجد الجند الغالب بالحق، والنور، والخير، فلا أمل في كسح الباطل، لأن الجند المؤدلج  بحب الشخصية وعبادتها أو حب الحزب وعبادته، أو حب المذهب وتقديسه، هذا الجند لاأمل فيه ولاثقة فيه، فهو منهار بمجرد انهيار الأصنام. ولكن الجند العابد للحي القيوم، والطامع في رضاه هو المنقذ للإنسانية من وهداتها.

وقبل الوصول إلى هذا على المسلم أن يحاول الفهم عن الله في كل مايقع، ويرضى بما قدره وقضاه، فليس في قضائه إلا عين الحكمة والرحمة واللطف بعباده. ولهذا قال لهم : {ما اصاب من مصيبة  في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تاسوا على مافاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم}(سورة  الحديد).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>