تفسير سورة التغابن – {لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المومنون}


نواقض لا إ له إلا الله:

إن المؤمن بعد أن يسعى إلى تحقيق كلمة التوحيد وتمكينها من قلبه المكان اللائق بها فهو يسعى من جهة أخرى أن لا يخرم هذه الكلمة وأن لا ينسفها بسلوك من السلوكات وبفعل من الأفعال هو في حقيقته مناقض لكلمة التوحيد، فالمؤمن كما يسعى إلى تحصين الإيمان وإلى تمكين الإيمان في قلبه يجب أيضا أن يتنبه إلى أن لا يقع في ما يخرجه من دائرة الإيمان غفلة منه أو جهلا لكونه منساقا وراء عادة من العادات في القول أو في العمل، فلا بد إذن من الاحتياط في هذا الباب، والناس الصالحون يخافون الارتداد عن هذا الدين كما يخافون الوقوع في الكفر.

ولذلك أفرد العلماء هذا المبحث ببحوث خاصة وبدراسات مركزة ذكروا فيها الأشياء التي تجعل الإنسان خارجا عن دائرة الإيمان أو ناقضا للإيمان في قلبهم

ونواقض الإيمان كثيرة أذكر بعضها إن شاء الله بحسب ما تيسر من ذلك، وهي :

عدم التوكل على الله عز وجل في كل الأفعال:

فالمطلوب في المؤمن أن تكون له الصلة الخاصة بالله، وهي صلة التوكل عليه، واللجوء إليه، والاعتماد عليه فهذه من مقتضيات لا إلاه إلا الله، ومن مقتضياتها ومستلزماتها أن الإنسان يثق بالله ثقة كبرى، ويفوض أموره إلى الله عزوجل {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} .

لكن هناك فصل واضح بين التوكل على الله وادعاء الإيمان فمن كان يزعم أنه مومن متوكل، ولكنه يفر عنه فمعنى ذلك أنه يتراجع عن مقتضى الإيمان. فالشهادة لله بالألوهية فيها معنى اللجوء إليه ،والانحياز إليه، والرجوع إليه، والاتصال به، واللصوق بفضله سبحانه وتعالى.

إذن فالإنسان المؤمن يتوكل على الله عزوجل ليحقق أي معنى اعتقاد الإلاهية في الله عز وجل. إن التوكل لا ينشأ إلا عن اعتقاد نهاية العلم في المتوكّل عليه ونهاية الثقة في المتوكل عليه، انظر عندما تكونعندك قضية في المحاكم، فأنت لست قادرا على أن تجابه الخصم، لأنك جاهل بالإجراءات القانونية، ولا تعرف المسطرة كيف تعالجها، ولا تعرف كيف تدافع عن نفسك، فلذلك تفوض أمرك إلى محام مقتدر، فإنك حينما تذهب إلى محام من المحامين لا تذهب إليه بمجرد أنك قرأت لافتته أو عنوانه في الشارع، فأنت لا تفوض أمرك إليه ولا تعطي هذه القضية له، ولا تسلم أمرك إليه إلا بعد أن تعلم بأن هذا الإنسان هو في نهاية الصدق، وفي نهاية الوثوق، وفي نهاية الفصاحة والقدرة.

مجموعة من الصفات هي التي جعلتك تفوض الأمر إلى هذا المحامي. لو قال لك أحد الناس إياك أن يدافع عنك فلان، أو إياك أن توكّل عنك فلانا من المحامين، فهو إنسان يتلاعب بالقضايا، ويمكن أن يخونك، ويمكن أن يبيع قضيتك إلى خصمك، فإنك لا تسمع له، إذن فأنت حينما تفضي إلى شخص وتفوض أمرك له فإنك لا تفعل ذلك إلا بعدما قام في نفسك أن الرجل الذي تفوض الأمر إليه فيه شفقة عليك، وفيه علم، وفيه قدرة .

إذن فالتوكل على الله والتفويض له هو تعبير عن اعتقاد الكمال في الله عز وجل، إنك تفوض أمرك إلى الله لأنك تعلم أن الله رحيم بك، أنت تفوض أمرك لله لأنك تعلم أن الله قادر على أن ينصرك، أنت تفوض أمرك إلى الله لأنك تعلم أن الله عليم بأحوالك، يمدك بكل خير، وهذه المواصفات هي التي جعلتك تثق به وتتوكل عليه وتفوض أمرك إليه لكن إذا تزعزع هذا الاعتقاد في النفس لجأت إلى الغير، فأنت مثلا تريد أن تخوض مواجهة مع الكفر والكافرين فإلى من تلجأ وعلى من تتوكل، إذا توكلت على الشرق أو توكلت على الغرب واعتمدت على هذا أوذاك، فسببك أنك تثق بالشرق أو الغرب، لأن العرب يوما ما كانوا يقولون إن صديق العرب هو الاتحاد السوفياتي، وثقوا به ثقة عمياء، وفوضوا كل أمورهم إليه، فخذلهم وما نصرهم في قضية واحدة، وكان هذا دليلاً على اغترارهم بالاتحاد السوفياتي وانخداعهم به، وآخرون يعتمدون الآن على المعسكر الغربي وعلى أمريكا وعلى المعسكر الرأسمالي، ويرون أنه يمكن أن ينصرهم في قضاياهم وقد يصرفون في هذا زمنا طويلا، وتهدر فيه طاقات، ثم يكتشفون بعد ذلك أن الغرب عدوهم، وأنه لا يحبهم لأنهم مسلمون، والمسلمون ما زالوا يتأرجحون بين شرق وغرب، ويعتمدون على ذا وذاك، إذن هم لم يتوكلوا على الله بعد، لأنهم لا يعرفون الله، لأنهم لا يعرفون قدرة الله تعالى على أن ينصرهم كما نصر المسلمين المستضعفين في بدر والأحزاب والفتح والشيشان، والمسلمون يوم بدأوا قضية فلسطين وقضايا أخرى كانوا أحسن حالا من المسلمين في الشيشان، لكن الشيشان قطعوا رجاءهم من كل المخلوقات، ما اعتمدوا على روسيا لأنهم كانوا يحاربونها، ما اعتمدوا على أمريكا، لأن أمريكا هي الشيطان الأعظم الذي يحارب الإسلام والمسلمين فسار لجوؤهم واعتمادهم على الله، فجعل الله من ضعفهم قوة لهم ونصرهم الله ورفع رؤوسهم، وكتبوا حقيقة الملاحم العظيمة التي يمكن أن تكتب في عصر من الأعصر.

وطبعا هذا سببه أنهم نفضوا أيديهم من كل المخلوقات واعتمدوا على الله عزوجل فكان الله عز وجل نصيرهم، إذن فأول ما يمكن أن يتشبث به المسلم هو التوكل على الله، والرجوع إليه، والخضوع له.

إن الاعتماد على الله عز وجل عند المسلمين ليس أبدا كما يريد أن يفهمنا إياه بعض المارقين وبعض الفارغين حينما يتصورون أن الاعتماد هو نوم وهو استكانة وانخلاع من الحياة، إننا نأخذ بالأسباب، بكل الشروط الحضارية التي تجعلنا أمة واقفة على قدميها ولكننا لا نعول على تلك الأسباب وحدها. الله تعالى يقول {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ولكنه في نفس الوقت يقول {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} إذن أعدوا، وننصركم، فأنتم أعددتم قياما بالسبب، ولكن النصر مع ذلك لم يأت مع القوة التي أعددتموها، جاء من شيء آخر، من المدد الإلاهي، ورب جيش كُسِر وهو في أحسن قوة، وفي أحسن مظهر من القدرة، ورب جيش نصره الله تعالى وهو ضعيف لا يتصور متصور أن يحرز النصر، ومع ذلك فقد وقع، ومن جهل هذا فقد جهل التاريخ عموما، أي من أنكر هذا الذي ذكره القرآن فقد أنكر التاريخ عموما، أي لم يكن الظهور للقوة فقط، كان الظهور للحق، ولذلك صاغ بعض الغربيين وبعض الوثنيين مقولة أن الشعوب التي تؤمن بحقها لا يمكن أن تقهر، ولا يمكنها أن تغلب، وكان بعض الفيتناميين يقول بهذه القضية، ووقعت بعض المفاجاءت في التاريخ، بمعنى أن الكفر يكون مدججا بالسلاح ويهزم بسلاحه ذلك، ولكن في المقابل لابد أن تكون القوة المواجهة له قوة إيمانية مستعدة، آخذة بالأسباب، لاشك في ذلك ولكنها متعودة على الرجوع لله عز وجل.

فمن ترك التوكل على الله ونفض يده من الاعتماد على الله، لا يمكن أن يكون إلا متراجعا في قضية الألوهية فمن قال لا إلاهإلا الله، ولكنه لم يعتمد على الله، ولم يتوكل عليه، لا يمكن أن يكون أبدا متحققا من الإيمان، إن الإيمان يمنح المومن شخصيته واستقلاليته، ويريد أن يصوره بأنه كائن متصل بالله، وله بذلك سبب من أسباب القوة العظيمة، الإنسان ليس دائما مفروضا عليه أن يكون خاضعا لزيد أو عمر أو بكر، إن في ذلك انحطاطا لكرامته.

لماذا ترون الإنسان يتلون؟ لماذا ترون الإنسان يتقلب؟ لماذا ترون الإنسان تموت فيه المبادئ التي يؤمن بها؟ لماذا ترون الإنسان يبيع كرامته ويبيع إنسانيته؟ لأنه لا يعتمد على الله، إنه متوكل على فلان ليقدمه، وفلان ليرفعه، وفلان ليفعل له كذا وكذا، وهو بذلك لا يمكن أن يستقر على شيء فهذا ليس له مبدأ أصلا، إن الإنسان بتركه التوكل على الله قد فضح عورته وانكشف وزالت إنسانيته ولم يبق إلا هذا الجسد الذي يتحرك به فقط. إذن هذا الخارم الأول من خوارم الإيمان.

الاعتقاد بأن  النعم  من غير  الله:

الخارم الثاني : الاعتقاد أن شيئا مما على الإنسان من النعم هو من غير الله عز وجل، أي إذا اعتقد الإنسان أن ما عليه من النعم ومن الخيرات يمكن أن يكون لغير الله عز وجل، فإن هذا تراجع في مقتضى الإيمان، فمن حقيقة لا إلاه إلا الله أن تعتقد أنك متقلب في نعم أفاضها الله عليك، وأنك أنت وما ملكت من مواهب، ومن طاقات، ومن خيرات، ومن خبرات، كل ذلك من عطاء الله عز وجل. والله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

فإذا بلغ الإنسان أن يقول إن ما نحن عليه هو بفضل التقدم التكنولوجي الذي يرجع إلى الثورة الصناعية في عصر التنوير عند الأوروبيين، الذي يعود إلى التعامل مع المختبرات، إن الإنسان عندما يقف هذا الموقف يكون قد أصبح عبدا للتكنولوجيا، إن التقدم التكنولوجي حُقِّقت به أشياء مهمة الآن، وأنجز به الإنسان إنجازات عظيمة، لكن التقدم التكنولوجي إنما هو وسيلة وإنما الذي قدم الإنسان وأتاح له هذا الاستمتاع به هو الله عز وجل الذي منح الإنسان هذا العقل الذي به صنع هذا التقدم التكنولوجي، الله الذي منح الإنسان هذه الأرض التي منحته خيراتها واستطاع أن يذيب معادنها، واستطاع أن يحركها، إن الله هو الذي أشاع في هذا الكون الطاقة الشمسية، والطاقة النووية، وكل شيء من هذه الأشياء، فالإنسان لم يفعل شيئا إلا أنه بحث واكتشف بفضل العقل الذي وهبه الله إياه فالكل من الله، والكل من فضل الله، ولكن الإنسان يغتر لانطماس بصيرته.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>