الرحمة أعلى مراتب الثواب:
يقول الله تعالى : {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله}(سورة البقرة) الرحمة هي المنتهى، هي منتهى الطلب بالنسبة لجميع الأنبياء والرسل والصديقين والشهداء والصالحين، الكل يطلب أن يدخله الله في رحمته، كما قال موسى عليه السلام : {رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك} (سورة الأعراف) والكل سيظفر بنعمة الله ورضوانه بمحض رحمة الله. لأن الرحمة هي منتهى الأمل، ومنتهى الجزاء.
إذا كان الله عزوجل قد طلب منا أن نؤدي ما خُلقنا له وهو العبادة {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فإنما ذلك لتحصيل درجة التقوى، {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعكم تتقون}(سورة البقرة)، والتقوى تعتبر وسيلة إلى ما هو أعلى منها وهو الرحمة {واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات) وذلك هو المنتهى. إذن، لا وجود في نص بأننا يجب أن نَرْحَمَ لنظفر بشيء أكثر من الرحمة، إذ ليس فوق الرحمة شيء، فنسأل الله الرحمن الرحيم بفضل منه ورحمة، أن يدخلنا في رحمته برحمته سبحانه وتعالى.
من يرجو رحمة الله؟ الآية التي افتتحنا بها الحديث تضع صفات ثلاثا تَعِدُ أصحابها برجاء هاته الرحمة : الإيمان، والهجرة، والجهاد، {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} فما الهجرة؟ وما رتبتها وموقعها؟ وما الثمرات التي تتحقق نتيجة الاتصاف بها؟
معنى الهجرة:
الهجرة من أصل المادة الكبير الذي هو الهَجر، ومدار الهجر-بجميع اشتقاقاته- لا يخرج عن الترك أو القطع، واللفظ المستعمل في القرآن الكريم كثيرا في المعنى المقصود لدينا اليوم، ليس هو الثلاثي بل الرباعي، إذ نجد : هاجروا، ويهاجروا، والمهاجر، والمهاجرون، كل ذلك من الرباعي، فالهجر فيه ممتد، والقطيعة فيه كبيرة، والمصارمة كبيرة جدا، والترك والبت فيه كبير، أي لا حلقة وصل بين ما بعده وما قبله، كأن ما قبله وما بعده عالمان منفصلان، عالم ما قبل الهجرة، وعالم ما بعد الهجرة، انفصال كامل بين عالمين وبين مستويين وبين درجتين.
وجوب الهجرة من مكان الفتنة إلى مكان الأمن والعدل والاطمئنان
وهذا يقتضي آليا أن بين المهَاجَر منه والمهاجرإليه تناقضا تاما، في الأول الخوف وفي الثاني الأمن ، في الأول الكفروفي الثاني الإيمان، في الأول الفتنة وفي الثاني التمكين، عالمان منفصلان،
لا مهاجر منه في القرآن الكريم إلا وفيه ما يوجب الهجرة {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا} فهناك ظلم قائم في نقطة الانطلاق، لكن هناك وعد قائم في النقطة المنطلق إليها {لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبرلو كانوا يعلمون}(سورة العنكبوت) قد يصل هذا الوضع إلى الحد الذي يجب منه الخروج كما في قوله تعالى :{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}(سورة النساء) لم إذا لم تهاجروا؟ لم رضيتم بالاستضعاف؟ وبإمكانكم غير ذلك، هذا في فترة من الفترات حين يوجد المهاجَرُ الآمن الممكّن فيه لأهل الله ولأولياء الله، إذ ذاك لا يبقى معنًى للاستضعاف في نقطة لا يكون فيها هذا التمكين ويكون فيها البلاء، لا يبقى معنى لأن لا يهاجر أولئك، بل إنهم إذا لم يهاجروا تسقط ولايتهم ونصرتهم {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}(سورة الأنفال) فالهجرة في المعنى الكبير عبارة عن انتقال أشباح يسبقه ويصاحبه انتقال في الأرواح، ترفعه درجة الإيمان في عباد ربانيين اتصلوا بالله وارتبطوا به، وذكروه، وشكروا له، وتبتلوا إليه، ثم اتخذوه وكيلا، وتعلقت قلوبهم به كل التعلق، فما عادوا يرون سواه، ما عاد لسواه عليهم سلطان أو حظ، صاروا مخلصين مخلَصين لله جل وعلا يتأثرون به وينقلون تأثرهم به إلى غيرهم، فهم يؤثرون في الخلق ولا يتأثرون بالخلق، بل يتأثرون بالخالق.
الهجرة بالأرواح قبل الهجرة بالأشباح:
هذه النماذج التي ارتفع إيمانها، يبلغ بهم التعلق بالله إلى أن يتجردوا من كل متاع الدنيا، من كل ما يشدهم إلى الأرض، من كل ما يمنعهم من النفير، قال تعالى :{مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض}(سورة التوبة) كأننا نثقل إراديا، نجتهد في أن نكون ثقالا بدل أن نكون خفافا، لمَ يحدث هذا؟ يحدث عندما يكون الارتباط بالأرض كبيرا، ولا يحدث عندما تطلّق الأرض بجميع عناصرها ويرتفع العبد وتخف روحه، وتصعد إلى مولاها عزوجل، متى دعيت هرعت، أسرعت واستجابت، لأنها خفيفة وليست ثقيلة بعناصر الأرض. فالمهاجرون الذين سيعطى لهم هذا الوسام الرباني الرفيع، هؤلاء ما الذي حدث فيهم؟ حدث فيهم انتقال في الأرواح أولا، علا إيمانهم، تخلصوا وتجردوا لله تعالى، فتم الانتقال في الأشباح بعد الانتقال في الأرواح، هذا الانتقال الروحي قبل الجسدي هو الذي يجعل المهاجر يترك ماله، يترك بلده، يترك ما عنده، ويخرج بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وحديث الهجرة المشهور يؤكد هذا المعنى حيث يقول : >إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله…< أي الهجرة ليست إلى مكان في الحقيقة، ولكن إلى معنى، الهجرة ليست إلى المدينة المنورة، وإن كان الشبح انتقل من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ولكن انتقال الشبح ليس إلا دليلا وبرهانا على انتقال الروح إلى بارئها وخالقها معتصمة به متوكلة عليه متجردة له، معطية الدليل والبرهان على أنها خالصة لله، لاترضى بغير ذلك، واقرؤوا قوله تعالى : {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}(سورة الحشر).
لا توجد شهادة في القرآن كله لغير هؤلاء. فالشهادة من الله تعالى لمعنى الصدق، وليست شهادة لبشر يمشي على الأرض، اسمع إلى قول الله تعالى :{إنما المومنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون}(سورة الحجرات) فهذا المعنى -معنى الصدق- نفسه تحقق، أين؟ في هذا الصنف من البشر، فله شُهد بالصدق في هذه الآية في القرآن كله {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}.
لقد حُبِّب للإنسان وطنه، والرسول كان حنينه إلى مكة شديدا، وكذلك الصحابة، ولكن الله يبتلي، ولا تمكين قبل البلاء، ولا تمكين قبل دفع الثمن، ولا تمكين قبل الوصول إلى حد الخروج من حب النفس والمال والأهل والولد والأرض، لا بد من صفوة يمحصها الله جل جلاله حتى تصبح خالصة له، وعلى أساسها يبدأ ما يبدأ، ويكون ما يكون.
الهجرة انتقال من بلد الظلم للتمكين للعدل:
الهجرة في حقيقتها هي الانتقال بالأشباح يسبقه ويصحبه الانتقال بالأرواح، أعيدها وألح عليها. وحين ننظر إلى الواقع التاريخي في الهجرة إلى الحبشة، في الهجرة الأولى، أو في الهجرةالثانية، أو في الهجرة إلى المدينة المنورة، أو في هجرة واكبت ذلك؛ بل حتى في الهجرة التي كانت في حياة الأنبياء السابقين، كل ذلك نلاحظ فيه أن المكان الذي تمت منه الهجرة، مكان فيه ظلم، مكان فيه عتو، ومكان فيه حرب وصد عن سبيل الله وفيه علو للكفر وفيه تمكن وسيطرة. والمكان الذي يتم إليه الانتقال، بعكس ذلك، يكون فيه أمان، وقبل أن ينتقل هؤلاء وحتى يمحصوا لا بد من تلك المرحلة.
ولكن المهم، هو أن تثمر ثمارها في تخريج صنف من الناس لم يعد هناك شيء يصرفهم وينافس في قلوبهم حُبَّ الله تعالى كائنا ما كان {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره}(سورة التوبة)، الله عز وجل لا يقبل أن يزاحمه في قلب العبد سواه؛ وذلك لا بد عليه من برهان، وأكبر برهان هو هذه الهجرة، حيث يخرج الناس ليس معهم شيء من حطام الدنيا، ويتركون كل شيء وراءهم، ماذا معهم؟ معهم دينهم، ومن أجل دينهم يفعلون ذلك، معنى هذا أنهم قدموا دينهم على دنياهم؛ معناه أنهم قدموا الله جل جلاله، على من سواه، يعني أنهم صاروا عبادا لله حقا كما عبرت الآية :{أولئك هم المؤمنون حقا}(سورة التوبة)
فهذا المعنى للهجرة يجب أن نتأمله وأن نفقهه مما تعطيه نصوص القرآن سواء نظرنا إلى أصلها في السيرة؛ أو لم ننظر، لأن الآيات المتحدثة عن الهجرة تجعل أصحابها في رتبة معينة عالية جدا، هي بحسب هاته الآية المفتتح بها وجميع الآيات على هذا الترتيب : آمنوا وهاجروا وجاهدوا، فإذن هناك ثلاث صفات لا يتم التمكين بغير وجودها، والهجرة واسطة العقد فيها، فهي برهان الإيمان، والإيمان هو الأساس ومنه المنطلق.
امتداد الهجرة في الزمان والمكان:
ولكن ما دليل هذا الإيمان في الخارج؟ الدليل هو الهجرة، والهجرة بذلك المعنى الذي جرده رسول الله في حديثه المشهور : >المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه< هذا المعنى الممتد الذي كان للمهاجرين الأُوَّل الذين سموا بالمهاجرين. وهو المعنى الموجود الآن وفي كل زمان، الهجرة بهذا المعنى ممتدة، وفي كل وقت يجب أن يكون هناك مهاجرون، بل متى وجد المهاجرون؛ بدأ العد العكسي للشر، وبدأ تاريخ الخير، فالهجرة هنا صفة للإيمان، والإيمان يكون عليه دليل في الواقع، يتمثَّل في أن العبد يهجر كل ما لا يرضي الله، ويتوجَّه للدين كلية، هذا هو معنى الهجرة الحقيقي، وحين يأتي هذا المعنى يبدأ التأسيس الصحيح للمعنى الثالث الذي هو الجهاد، لإعلاء كلمة الله، فهل يمكن أن يكون هناك جهاد دون هجرة؟ لا يمكن، لا يمكن أن يُخرَّج المجاهد قبل أن يهاجر بهذا المعنى الذي أتحدث عنه؛ لا بد أن يخلُص أولا لربه ليستطيع أن يجاهد في سبيل الله. فهناك الجهاد في أشكال مختلفة وفي سبل مختلفة؛ ولكن لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله إلا الذي هاجر في سبيل الله، فهاته الصفات مترتبة بعضها على بعض، لا بد أن يجاهد الإنسان نفسه في ذات الله بهجر ما لا يرضي الله،، ليتأهل للرتبة الثالثة. تقع صفة الهجرة في الوسط هي ثمرة لما قبلها ودليل وبرهان على الصفة السابقة، وهي مؤسِّسة لما بعدها وسبب فيما بعدها، ولا يأمر الله بالاقتصار على الهجرة دون جهاد {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فُتِنُوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}(النحل : 110) من بعدها، هذا الأمر في الواقع هو الوضع الطبيعي، إذ لا يتصور أن ىُدعى مهاجر إلى الجهاد ثم لا يجاهد، إلا إذا حدث خلل في صفة الهجرة نفسها، ولذلك في بدر-على سبيل المثال- عندما طلب رسول الله رأيا من أصحابه حول ماذا يفعل مع العير والنفير، هل يتجه إلى ذات الشوكة أم إلى الجهة الأخرى؟ الذين استجابوا أوَّلاً هُمُ المهاجرون، فما خرجوا إلا لهذا، يعني ما خرجوا من أموالهم وديارهم إلا لنصرة الله ورسوله يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله، ولكن الرسول أعاد ثم أعاد حتى جاءت نصرة من الأنصار. فلذلك أقول : الهجرة بذلك بالمعنى الدقيق الذي طبق في التاريخ يوما، تستوجب الجهاد، لان الناس قبل الهجرة كانوا ينفذون قول الله {كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}(سورة النساء) ليصيروا عباد ا لله مقدمين له على ما سواه، فإذن رتبة الهجرة وموقعها واضح من الآيات حيث يأتي بعد الإيمان وقبل الجهاد؛ يأتي بعد الإيمان ثمرة له وبرهاناً عليه، ويأتي قبل الجهاد أساسا له ووسيلة وسببا أيضا في تحقيقه وجعله خالصا لله عزوجل.
هذه الرتبة، كما تُظْهر الصفات، تَظْهَرُ هي أيضاً عند الاتصال بها بصورة أعلى من هذا. ذلك أن هناك تصنيفاص ثلاثيا للمؤمنين ينص عليه القرآن هو {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}(التوبة : 101). الرتبة الأولى يحتلها المهاجرون، ولا يحتلونها دون وجود الصفة الثالثة (الجهاد) لأنها من المستلزمات. هناك تلازم بين الهجرة والجهاد، ومما يشير إلى ذلك الآية : {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} فالهجرة والجهاد متلازمان لا يتصور الجهاد دون الهجرة، ولا هجرة لا تؤدي إلى الجهاد. فإذن صفة الهجرة حين ينظر إليها في علاقتها بمن اتصف بها، تؤهل أصحابها للرتبة الأولى، وبعدهم يأتي الأنصار وبعد الأنصار يأتي الذين اتبعوهم بإحسان.
فإذن رتبة الهجرة عالية وموقعها رفيع بالتطور بهذا الدين نفسه، وفي المعنى المستمر، وفي المعنى التاريخي الذي كان، ولذلك بني عليها ثمرات نادرة المثال، وأول ثمرة التمكين في الأرض كما تشير إلى ذلك الآية {ومن يُهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُرَاغَمًا كثيرا وسَعَة} مكان يمكن أن ُيْرِغم فيه عدوَّه وَيْقهره، أي مكاناً للمراغمة، مكاناً للإرغام. هذا الذي تشير إليه الآية رأيناه في التطبيق التاريخي، سواء بالنسبة لأصحاب رسول الله من المهاجرين، أومن قبله كما وقع لسيدنا إبراهيم أو سيدنا لوط عليهما السلام….
من ثمرات الهجرة:
> فإذن أول ثمرة للهجرة بالمعنى الذي نتحدث عنه هو التمكين في الأرض، لأن المكان الذي هاجر المهاجر إليه يكون مخالفا للمكان الذي هاجر منه.
الهجرة الرسمية ليست الهجرة إلى الحبشة، هناك كان الأمن ولم يكن التمكين بهذا المعنى، ولكن في الهجرة الرسمية التي أُذِن فيها وأُمَربها، كان التمكين، والنصر هبة من الله {وما النصر إلا من عند الله}.
فأنعم سبحانه وتعالى -وقد علم من قلوب هؤلاء ما علم ورأى من أحوالهم ما رأى- بنقطة أرض يستقرون فيها، في المدينة المنورة، بداية لتأسيس الخير، إذ ذاك تبدأ ثمرات أخرى،. فالتمكين أول ثمرات الهجرة إلى الله جل وعلا، {الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}.
> الثمرة الثانية ثمرة أمة الجسد، لأن المسلمين قبل الهجرة يكونون عادة مشتتبين في نقط مختلفة، فإذا هاجروا إلى نقطة بعينها وفتح لهم في الأرض ومُكِّن لهم فيها؛ تجمعوا فأمكن لهم إذ ذاك أن تتشكل منهم الأمة التي شبهها الرسول بالجسد في الحديث المشهور >مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى<. ولا يعرف الآن شكل من أشكال التجمع البشري المتلاحم المتكافل المتضامن مثل حال الجسد، الجسد أكبر مظهر لهذا التلاحم والتآزر والتنظيم، وتوزيع المسؤوليات {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} تأمل نفسك تجد العجب العجاب، هذا الكيان الغريب كيف بني؟ وكيف تتكامل قطعه وتتآلف فيما بينها وتتراحم حتى مثل به رسول الله هذا المثل المشهور : إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، جزئية واحدة يحدث فيها الإشكال تجد الجسم كله يدعو بعضه بعضا ليتساندوا وتعلن حالة الطوارئ في الجسد كله، وترتفع درجة حرارته؛ وهذا صار عند الأطباء اليوم من البديهيات، أي أن درجة الحرارة ترتفع من باب الوقاية العامة ومحاربة مكروب معين ومنع نموه وتكاثره، وكلما ارتفعت درجة الحرارة كانت المحاصرة كبيرة. المقصود عندنا أن هذا التداعي هو بهذا الشكل في الجسد كله. فتبارك الله أحسن الخالقين. كتيب قديم أحب أن يقرأه الشباب (معارك وخطوط دفاعية في جسمك) من أمتع الكتب ليفقه الإنسان نفسه وجسمه.
قلنا هذا المثال، (مثال الجسد)، مثال الأمة التي يمكن أن تنتج وتتألف من جمع المهاجرين المتجردين لله، وممن نصرهم وهم الأساس، فالأمة الجسد من ثمرات الهجرة. والجهاد نفسه هو من ثمرات الهجرة، الجهاد انطلاقا من أرض، لأن الجهاد قبل ذلك يكون جهاد القلب وجهاد اللسان، ولكن عندما تطهر الأرض يبدأ الجهاد باليد لأنه قبل ذلك تحدُثُ فتنٌٌ ويختلط الحابل بالنابل، ولكن بعد أن تستبين سبيل المجرمين، يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
فالجهاد نفسه ثمرة من ثمرات الهجرة {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} قبل ذلك لم يأذن لهم، {كفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}… بعد ذلك هناك إِذْنٌ، لأنه وجدت نقطة أرض يُنطلق منها ويرجع إليها وفيها جمعٌ من المؤمنين يمثل جسدا واحدا متراصا يحمي نفسه من سواه ويؤسس ذاته على أساس متين في معنى أولي للجهاد. فالجهاد إذن، هو جهاد البناء، أولا وأخيراً ومرحلة الهجرة هي مرحلة الوسط، فيه وانظروا إلى السيرة، فهي أيضا في مرحلة الوسط قبل ثلاث منها كانت الدعوة غير ظاهرة غير منظورة قبل {اصدع بما تومر}، أما عندما ظهرت الدعوة وأمر رسول الله بالصدع بما أُمِرَ، ثم بعدها بعشر سنين قبض رسول الله .
المرحلة الأولى مرحلة إيمان، والمرحلة الثانية مرحلة جهاد، والنقطة الفاصلة الحاسمة الناقلة هي الهجرة، والثمرة الرابعة هي هذا التاريخ الممتد.
نحن الآن من أين بدأ تاريخنا ومتى بدأ؟ من هذا الحادث العظيم بدأ، فالهجرة وجمع المهاجرين، هو بمثابة خلاصة تصطفى وتصفى وتختار. بعد ذلك يبدأ التاريخ :تعطى له الأرض، ويعطى له الجهاد، ويعطى له الانطلاق التاريخي، فالهجرة هو تحول إذن في القلوب يصير إلى درجة عالية، ينتج عنه تحول في التاريخ المتصاعد بناءً وقوة ايمان