مسألة المنهاج في بعدها المقصدي


أصفق علماء اللغة على أن النهج هوالطريق الواضح. ونهج الأمر وأنهج بمعنى: وضح. وقد يسهل الاقتناع بترجيح كفة مصطلح “المنهاج” في موازاة ” المنهج” ، بالنظر المقيد في قول الله عز وجل: ” لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”.

وقد اجتبيت في هذه المساهمة، التنقيب الجزئي والأولي في مسألة المنهاج، باعتبار المقاصد والآراب، لأن الشرط الرئيس في البحث المعرفي، هو الإحاطة في المفتتح بالفضاء السطحي للمنهاج، الذي يتشكل من لبنة الوعي، ولبنة الرؤيا، وهو الشرط الذي يردف عليه بشرط رئيس ثان، متعلق بالفضاء العميق للمنهاج. ومن أهم علامات هذا الفضاء، صياغة المنهاج للمقاصد المعرفية، بقدر صياغة هذه المقاصد ذاتها للمنهاج.

ولتكون معالجة مسألة المنهاج في بعدها المقصدي، مطلبا هينا، فإننا سنخص هذه المساهمة المتواضعة، التي جاءت بقدر قبسة العجلان،بمبحثين رئيسين :

أ) المنهاج ونفعية المقصد: ونقصد بنفعية المقصد، أن البحث العلمي لايبتغى لذاته فحسب، ولكنه يبتغى أيضا لحقائقه.، وقد جمع الرسول[ ذلك فأوعى، في تعوذه من علم لاينفع، وفي تنبيهه على أن ابن آدم إذا مات، انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به بعده.

وإذا اصطفينا وجه التأليف، فإن اتصال المنهاج بنفعية المقصد، يتجلى على الأخص في أن يكون المنطق العام الذي يحرك كل دواليب الصناعة التأليفية كالآتي :

1- شئ لم يسبق إليه فيؤلف.

2- شيئ ألف ناقصا فيكمل.

3- تصحيح الخطأ.

4- شرح المشكل.

5-  اختصار المطول.

6- جمع المفترق.

7- ترتيب المنثور.

وقد نظمها بعضهم قائلا:

ألا فاعلمْن أن التأليف سبعة

لكل لبيبٍ في النصيحة خالص

فشرحٌ لإغلا ق وتصحيحُ مخطئٍ

وإبداعُ حَبْرٍ مُقْدِمٍ غير ناكِصِ

وترتيبُ منثورٍ وجمع مفرق

وتقصير تطويل وتتميم ناقص

وقدذهب الإمام أبو عبد الله ابن عرفة التونسي (ت 803هـ)، إلى أن مِسَاك الصناعة التأليفية أو التوليفية هو ضمان الفائدة الزائدة، وإلا فذلك تخسير للكاغدِ. وقد عنى ابن عرفة بالفائدة الزائدة، للزيادة على ما في التواليف السابقة، وأما إذا لم يُمَكَّنْ في الخَلَدِ، تفادي نقل ما في الكتب المتقدمة، فإن الأمر لايعدو أن يكون تخسيرا للكاغد، بتعبير الإمام ابن عرفة رحمه الله. ولعل هذا هو الذي دفع والد الإمام عبد الواحد الونشريسي الفاسي (ت 955هـ) إلى أن يسأل الله تعالى المغفرة من التطفل وتعاطي ماليس في المقدور(1) ، خشية أن يكون من زمرة المؤلفين الذين يخسرون الكاغد.

ب) المنهاج والتدقيق المصطلحي: إذا تعلق الأمر بإجالة النظر في جوهر المنهاج من جهة وعي وإدراك الحقل المعرفي، وتحديد الرؤيا الحقيقة به، فإن المصطلح وتدقيقه يحتلان موقعا خطيرا، في بيضة البحث المعرفي . فكأن ضبط المصطلح يضارع رسم قانون أساسي داخلي، يرسخ دعائم منهاج معين.

ويمكن التوقد لذلك من خلال جملة من الأدوات الإجرائية التي وفى العناية بها الإمام أبو الوليد الساجي الأندلسي (ت 474هـ)، وأهمها:

1- بيان الحدود التي يحتاج إليها في المعرفة. ويمكن أن ننتقي من تلك الحدود ما يأتي:

- الحد= اللفظ الجامع المانع.

العلم المحدث نوعان = ضروري ونظري.

الدليل = الدلالة والبرهان والحجة.

النص = مار فع في بيانه إلى  أبعد غاياته.

العموم = استغراق الجنس.

الخصوص = تعيين بعض الجملة بالدليل.

التأويل = صرف الكلام عن ظاهر، إلى وجه يحتمله.

الشرط = ما يعدم الحكم بعدمه، ولايوجد بوجوده.

العلة = الوصف الجالب للحكم.

الترجيح = بيان مزية أحد الدليلين على الآخر.

2- بيان الحروف الدائرة بين أهل التناظر

ومن مخائلها:

- (ما) ولها خمسة مواضع تكون فيها اسما، وخمسة تكون فيها حرفا.

-  (من) وهي عامة لمن يعقل، ولها ثلاثة مواضع: الخبر والجزاء والاستفهام.

-  (أي) وهي تقع لمن يعقل ولما لايعقل، وهي من ألفاظ العموم، ولها ثلا ثة مواضع: الاستفهام والفقه والحال.

- (حتى) ولها أربعة مواضع، وهي أن تكون جارة، وعاطفة، وناصبة وحرف ابتداء.

-  (بل) ولها ثلاثة مواضع، وهي أن تكون حرف عطف، وأن تكون لاستئناف الجملة، وأن تأتي في ابتداء الكلام.

-  (أمّا) وهي لللاستئناف، وتقسيم الجمل.

- (إمَّا) أو، وتكون للشك، والتخيير، والتعميم، والابهام.

- أو وهي للشك، والتخيير، وتساوي الجنسين، والتقسيم، والابهام.

- (الباء) وهي تقع خالا  وبدلا، وللممازجة، والإلزاق، والتبعيض(3)

3-  بيان الأدلة الشرعية :

وهي على ثلاثة أضرب:

أولاً : الأصل = الكتاب، والسنة، والإجماع.

ثانيا : معقول الأصل، وهوعلى أربعة اقسام:

< القسم الأول: حسن الخطاب.

< القسم الثاني: فحوى الخطاب.

< القسم الثالث: الحصر

< القسم الرابع: معنى الخطاب.

ثالثا : استصحاب الحال، وهو استصحاب حال العقل(4).

ومهما اتسعت دائرة الأدوات الإجرائية التي تشد عضد كل مهتم  بمسألة المنهاج في بعدها المقصدي، فإنه قد يكون من الخليق صرف الاهتمام إلى ما يمثله مطلب الحقائق من أهمية في تشكيل لبنات البحث العلمي. وهو ماأوجزه الإمام مالك رضي الله عنه في قوله: ” إذا خفيت دلائل القبلة، اجتهدوا في طلب ا لقبلة”(5)، فكأن الباحث لم يكلف إصابة الحقيقة، وإنما كلف الاجتهاد في طلبها. فمن لم يجتهد في طلبها، فقد أثم،  ومن اجتهد، فأصابها، فقد أجر أجرين : أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة للحقيقة. ولكن العقبة الكؤود التي يصعب اقتحامها، والتي تتصل من قريب أو من بعيد، بإصابة الحقيقة في البحث العلمي، أو بالاجتهاد في طلبها، هي هذا السؤال :

متى يخرج البحث العلمي في عالمنا العربي والاسلامي من ربقة تخسير الكاغد بتعبير الإمام ابن عرفة؟؟؟

د. بـدر الـمـقـري

———–

1- ” أزهار الرياض” للمقري: ج 3/ص 33- 35.

2- ” إحكام الفصول” للباجي: ج 1/ ص 45- 53.

3-  نفسه: ج1/ص 63-53.

4-  نفسه: ج 1/ ص 69.

5- نفسه: ج 2/ ص 623- 624.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>