توسمات جارحة : مقاربة في الكتابة


ثمة أسئلة كثيرة تتبادر إلى ذهن الإنسان المعاصر وهو يرى الثورات العلمية الهائلة تجتاحه وتكاد تصرفه عن ذاته، هل يستطيع الإنسان بالعلوم المادية أن يستغني عن العلوم الإنسانية ؟؟ ما دور الكتابة الإبداعية في بناء الحضارات الإنسانية ؟؟ ما وظيفة العملية الإبداعية نفسها في معترك التحديات الحضارية ومجالات الرقي والسمو والتغيير؟؟ بل ما دورها في فهم حقيقة الإنسان نفسه في خضم هذا الواقع المادي المعقد الذي يشيئه ويعامله معاملة البضاعة في سوق النخاسة؟؟ …أسئلة متعددة، وقد تكون متكررة, تتناسل كلما أحس الإنسان بفقدان التوازن في كينونته وقيمته الإنسانية لتصبح إشكالية عليه معالجتها في إطار مستويات مختلفة، قد تكون هذه المقاربة إحداها .

إن الكتابة بمفهوم بسيط عملية من عمليات السلوك البشري الذي يحاول بها المبدع مدالجسور بينه وبين الآخر و إقامة التوازن بينهما على دعامتين أساسيتين معينتين: معرفية وجمالية . ويترتب عن هذا الفهم المبسط مفهوم آخر يغوص في السياق نفسه، ويعتبر الكتابة فعل مسؤول يتلبس الكاتب ليفهم الواقع المحيط به وليعيد  تأثيث هذا الواقع والحياة برمتها برؤية خاصة متجذرة في عمق ذاته الحضارية، وليؤسس اليومي والحضاري بهاجس مغموس في زخم العلاقة بين اللغة الإشارية ومجموعة متعددة من الدلالات والرموز والإيحاءات التي تعبر عن الذات الفردية والذات الجماعية، كما أنها تفجير لذاكرة خصبة والتقاط لصور موحية تحمل قدرة شاسعة على التخييل وخوض آفاق التغيير وإثبات لألوان شتى من العوالم والمكاشفات والتجليات التي تؤجج أعماق القارئ وتبلور وعيه .وهي قبل هذا وذاك إحساس متفرد بمفردات الجمال والحق وصدق التعامل معهما.

وإذا سلمنا بهذه المقاربة لبعض دلالات الكتابة المتنوعة نجد أنها في الحضارة الإسلامية – بالإضافة إلى ما قلناه- ليست نزوعا فرديا لإشباع رغبة ذاتية أو استجابة آنية منفعلة غير واعية لتمزق وضياع الذات الحضارية في مستنقع الحضارات المادية، بالرغم من الإقرار بأن هذا قد يكون من بعض دوافعها، وإنما هي محاولة دائبة ومستمرة لتأسيس صرح لغوي وإبداعي واع يقوم على رؤية ناضجة للواقع والحياة ويهدف إلى تقديم رسالة حضارية مسؤولة منزهة عن العبث والزيف والانجراف نحو الأهواء دون ضابط،وتدخل في إطار مسؤولية القول عموما لقوله تعالى : {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}(ق :18), وهي استثمار متجدد لإمكانيات اللغة من أجل اكتساح عقل ووجدان القارئ وتنمية ملكاته وتهذيب ذوقه وترقيته . وهي كتابة تتضح فيها الوظيفة الرسالية والوظيفة الجمالية انطلاقا من مرجعية معرفية متأصلة تعتبر أن القرآن بوصفه النموذج الأعلى للكتابة في الحضارة العربية والإسلامية  يهدف إلى إبرازهاتين الوظيفتين وتحقيق التوازن بينهما من أجل إحداث التأثير المطلوب في المتلقي وإشباع أشواق روحه المتطلعة إلى آفاق الحق والجمال من جهة والخروج من شرنقات الانحطاط والتخلف والتبعية والتغريب الفكري والثقافي والانسلاخ عن الذات من جهة أخرى .

والناظر لطبيعة الكتابات العربية يرى أن معظمها لم يستطع أن ينجو بنفسه من رذاذ التغريب الثقافي الذي يكاد يمس كل شيء إلا من رحم الله، كما أنها لم تستطع أن تنأى عن الاستلاب الفكري الذي ميع – بوعي أو بدونه – شخصيات جادة متعددة كانت تتوخى الخروج من مستنقعات التخلف والانحطاط إلا أنها سقطت في فخ التبعية والاستهلاك، وبذلك لم تصمد في وجه الطوفان الكاسح للحضارة الإنسانية المتوازنة إلا قلة من الكتابات التي انطلقت من رؤية ذاتية حضارية متأصلة أولا قبل أن تستفيد من تراث الإنسانية جمعاء، ثم انغمست في واقع الحياة تلتحم بأحداث الأمة وقضايا الناس وتبدع صورا من معاناتهم وأفراحهم وتقدم نماذج متعددة ومختلفة من القيم والمبادئ الإنسانية التي تمكن الإنسان المسلم من تأصيل شخصيته وحماية ذاته الحضارية “في مواجهة غزو فكري وتربوي لن يلقي سلاحه قبل أن يمحو هذه الشخصية محوا ويدمر هذه الذات تدميرا” (كما يقول د. عماد الدين خليل في كتابه”مع القرآن في عالمه الرحب”.ص89). كتابة تربط بين ماضي الأمة وحاضرها  وتستشرف مستقبلها، وتعد نفسها بمثابة دعوة مستمرة ومتجددة، بشكل مباشر أو غير مباشر, إلى التمرد على الأنماط الفكرية والثقافية المستهلكة التي غرقت في أوحال التبعية والتشتت وربطت تقييم الذات وتقدم الوعي وتجدده بمدى الاحتكاك أو الانغماس في الرؤية الغربية وفكرها وثقافتها .دعوة إلى إعادة صياغة الشخصية الإسلامية و صياغة المجتمع المتناسق و المتوازن . وصدق الله العظيم في قوله تباركت كلماته : {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}(إبراهيم :26-25) .فهل يمكن للكاتب العربي أن يتوقف قليلا مع نفسه ويصالحها مع ذاته الحضارية قبل أن ينطلق إلى آفاق الكتابة والإبداع ؟؟.

< الأديبة  الدكتورة أم سلمى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>