قضايا تربوية فقه الاخلاص والنية وأثره في مسار الدعوة إلى الله


منهاج النبوة هو منهاج

السائرين إلى الله

لسنا في حاجة إلى التدليل على صحة الرسالة الإسلامية وشمولية خطابها ووسطية منهجها في الأمور كلها بما يتوافق وما جُبل عليه الإنسان، الذي بقدر ما كرَّمَهُ الله، جلت قدرته، أرسل إليه المرسلين والأنبياء تباعا ليرشدوه إلى الصراط المستقيم حتى لا يزيغ عن الحق ، ويظل مساره في هذه الدنيا مسيجا بنور الله الهادي إلى توفيقه ورضاه. فقد فَصّل الله في خطابه إلى الإنسان منهاج السلوك وبيّن أن الهدف الأسمى من الخلق والتكليف عبادة الله عز وجل : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56)، كما عمل الرسل والأنبياء عليهم السلام على تعليم هذا الإنسان، التّائِه في دروب الحياة، المُصارِع لكيد الشياطين، منهاجَ العمل والسير إلى الله جل جلاه، بتصحيح العقائد وتنقية البصائر وغسل القلوب وتصفيتها على الدوام حتى تكون في مستوى خطاب الله تعالى الثقيل الذي يحتاج إلى قلب من عيار خاص ليكون له وعاء : {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا}(المزمل : 5). وقد تزامن فعل التربية على فهم خطاب الله ومقاصده مع فعل التربية على الإخلاص لله في كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله : {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}(البينة : 5)، ليكون ما يصْدُر عن هذ الإنسان للّه {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين}(الأنعام : 164- 165).

إن القراءة المستوعبة لمرحلة إعداد جيل القدوة الأوائل من الصحابة، رضي الله عنهم، تُبين للناظر المتدبر كيف استطاعت بصيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمته إخراج رجال كانوا لهذا الدين قواداً وحماة ودعاة في نفس الآن لأنهم استوعبوا قوله تعالى : {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}(الأنعام : 154). كما تدبروا جيداً قوله تعالى : {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}(الأحزاب : 21) وقوله جل جلاله كذلك : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}(آل عمران : 31)؛ فربط بَيْن المحبة والاتباع والفوز باليوم الآخر ومرضاة الله؛ ولا مدخل إلى ذلك إلا عن طريق جعل الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والإسوة، لأنه المبعوث من الله بخطاب هو في جملته منهاج السائرين إلى الله، جلت قدرته، على الدوام، من أولئك الذين قال في حقهم عز وجل {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ}(فاطر : 21).

فما انتصرت الأمة زمن تمكنها، وما بلغ هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها، إلا لتوفر هؤلاء الرجال الذين صنع الله منهم : {خير أمة أخرجت للناس}(آل عمران : 110) ولأداء وظيفة الشهادة : {لتكونوا شهداء على الناس}(البقرة : 143). فقد توفرت في شخصيتهم العديد من عناصر القوة لعل من أهمها وأبرزها : الإخلاص لله في الدعوة إلى دينه.

الإخلاص أساس التخلص من الخَبَال الحركي في مجال الدعوة

واليوم، والأمة تعيش على إيقاع الهزيمة الحضارية، وقد تكالبت عليها الأمم والشعوب من كل ناحية، نحتاج إلى كل ما من شأنه تصحيح الرؤية باتجاه المستقبل وتوجيه البوصلة في اتجاه الشهود  والخيرية؛ ولا قدرة لنا على ذلك مالم تتوفر فينا، وحولنا، العديد من شروط العودة والنصر؛ فتلك سنة من سنن الله في خلقه، لعل من أهمها إخلاص العلاقة بالله من جديد بتصحيح الارتباط به. ولا شك في أن الأخذ بالمنهاج النبوي الصحيح والراشد هو المنطلق ليكون الرسول صلى الله عليه وسلم الإسوة والقدوة، والأمة تحاول النهوض من جديد. فقد بنى الرسول الكريم أمة الخيرية والشهادة من حطام الجاهلية؛ وكيف لنا أن لا نأخذ بمنهجه وفينا سنته .

وقد يتساءل البعض : ولكن، من منا سيأخذ بيد هذه الأمة، وقد تعددت التيارات والمذاهب والحركات بتعدد الرموز والمواقف والفهوم؟ وهل باستطاعتنا -نحن الذين يجمعنا الاختلاف أكثر من الاتفاق- أن نكون كالذين وصفهم الله في كتابه العزيز بقوله : {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}(الصف : 4)؟.

إننا لا نحزن لتعدد التيارات والأحزاب والحركات والعاملين للاسلام، جماعات أو أفراداً، بقدر ما نرثي حالنا من جراء حالة التنافر والتباغض التي تطغى على الكثيرين منا، والتي تزيد من حدة ما نعيشه من خبال ثقافي تستفيد منه سوى القوى المعادية التي تتربص بنا الدوائر، سواء من بني جلدتنا أو من اليهود والنصارى، من أولئك الذين وصانا الله جل جلاله بوصية تغاضينا عنها فَعُوقبنا بما نحن فيه اليوم : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير}(البقرة : 120).

إن باستطاعتنا أن نكون من أولئك الذين يقاتلون في سبيله صفا كالبنيان المرصوص، وأن نكون على قلب رجل واحد، وأن نستعيد وظيفة الخيرية والشهادة على الناس؛ لكن الأمر يحتاج إلى مقدمات أساسية سابقة، هي وحدها الكفيلة بجعلنا خير أمة أخرجت للناس، لعل من أهمها، في هذا المقام : إخلاص النية والعمل لله عز وجل؛ مصداقا لقوله تعالى : {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص}(الزمر : 2- 3)، وقوله رضي الله عنه : >ثلاث لا يغِّلُ عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم<.

يظهر جليا -إذن- أن الحاجة ملحة لاستحضار هذا الشرط، ونحن نحاول قدر المستطاع استئناف رسالة الأنبياء، الذين تحرروا من عبودية الأهواء وغير الله، وتخلصوا من آفتَيْ غفلة القلب وقساوته، فلم يصابوا بعمى القلب ولا بالزيغ {فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج : 46)، {فلما أزاغوا أزاغ الله قلوبهم}(الصف : 5)، فكانوا من الصالحين؛ والصلاح -كما نعلم- أحد موجبات خلافة الله في الأرض : {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}(الأنبياء : 105).

>إنما الأعمال بالنيات<

منطلق العمل

وإذا كانت الدعوة الحقة لله في حاجة إلى رجال صادقين ومخلصين، فإن الخطوة الأولى لإخراج هؤلاء الذين بهم يُجدد الله لهذه الأمة، على رأس كل مائة عام دينها، تتعلق بإخلاص النية في العمل مصداقا   لقوله صلى الله عليه وسلم : >إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل  امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه<(رواه مسلم والبخاري)؛ فقد أخلص السابقون من الصالحين نيتهم حينما عملوا على تصفية أعمالهم عن ملاحظة المخلوقين، وأخرجوا هؤلاء عن معاملة الله؛ لأنهم أدركوا مغزى قوله جل جلاله : {يا أيها الذين آمنوا، هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تومنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المومنين}(الصف : 10- 13). فدلت الآيات على اقتران الفتح والنصر والبشرى والفوز والمغفرة بالتجارة مع الله عز وجل، تجارة يتجرد خلالها المؤمن من كل ما من شأنه أن جعل عمله هباء منثوراً. {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعناه هباء منثوراً}(الفرقان : 23)، أو يدفعه إلى الضلال المبين، فيكون من أولئك الذين قال فيهم الحق سبحانه وتعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}(الكهف : 99).

الاخلاص والتحرر من فساد القلب والموبيقات الحركية سرّ تصحيح الأساس

يتضح مما سبق ذكره أن الضرورة تقتضي تجديد فهم العاملين للاسلام بخصوص شرط الإخلاص، فقها وتنزيلاً، لأنه أساس قبول الأعمال كلها، ومنها العمل لله والدعوة الى دينه؛ ولن يستطيع المرء الوصول إلى هذه المرتبة الباطنية، إلا إذا تخلّص من أسباب فساد القلب مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : >إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب}(رواه البخاري). ففساد الباطن يؤدي، لا محالة، إلى فساد الظاهر؛ ولذلك ركزت مجموعة من الآيات والأحاديث على القلوب التي تعقل {فتكون لهم قلوب يعقلون بها}(الحج : 46) والقلوب التي تفقه {لهم قلوب لا يفقهون بها}(الأعراف : 179)؛ إذ المطلوب شرعاً وواقعا القلب المُبصر، ولعل هذا ما جعل الإسلام يركز، في تربية المسلم ا لمؤمن، على القلب، لأنه مركز الاخلاص، والقائد الذي تتبعه كل الجوارح والأفعال. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه : >قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليما ولسانه صادقاً ونفسه مطمئنة وخليقته مستقيمة، وجعل أذنه مستمعة وعينه ناظرة، فأما الأذن فقِمْع، والعين مقرة لما يوعى القلب، وقد أفلح من جعل قلبه واعيا<(رواه أحمد).

يظهر، إذن، أن المطلوب شرعاً إخلاص النية والقصد في الأعمال والأقوال كلها، بما فيها العمل للدعوة إلى الله جل جلاله؛ إلا أن الناظر في أفعال بعض المنتمين إلى هذا العمل سيلحظ بدون شك كثرة المبيقات الدعوية. ولست أغالي إن قلت : إن مرد ذلك يرجع إلى الفساد الذي أحاط بالقلب، وكثرة الفهم المغلوط للشرع أو فرط اتباع الهوى؛ فترى المرء لا يعمل إلا مرضاة لشخص ما، خوفا أو تملقا أو طمعا في قربه، أو رغبة في تحقيق مصلحة دنيوية، أو رياء أو جلباً للشهرة..؛ في حين يقتضي الأمر إخلاص العمل لله جل جلاله، سعيا لاكتساب مرضاته ورحمته وعفوه، وتلك سمة من سمات الخاشعين.

إن الدعوة إلى الله، في المرحلة الراهنة، بالذات، في حاجة ماسة إلى المخلصين، وليست العبرة بالكثرة، ولكن بالنماذج التي استطاعت أن تُصيغ حياتها بالقرآن الكريم، فما انتصر الحق على الباطل، وما انتشر الاسلام بالشكل الذي عليه اليوم، ولكن باخلاص جيل من المؤمنين الذين تربوا بداخل المدرسة القرآنية على المنهاج النبوي الراشد، جيل القدوة والقيادة، جيل أمة التواصي بالحق والصبر، الجيل الصالح المصلح.

على هذا الأساس يتبين أن للنجاح في مجال الدعوة الى الله عز وجل قاعدتين اثنتين : أولهما الاخلاص في السر والعلانية، وثانيهما موافقة الشرع؛ ولعل هذاهو أساس تمثل المعنى الحقيقي للاسلام الذي يجمع بين الاستسلام والانقياد من جهة، وبين الإخلاص من جهة ثانية؛ ولذلك قيل إن الأصل في الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأصل العمل : عمل القلب؛ وهو ما يفضي إلى قاعدة إيمانية تصحح السلوك مفادها أن القول والعمل لا يقبلان إلا بالنية الخالصة لله جل جلاله، الشيء الذي يبين لنا، بكل وضوح، أن التربية الدعوية الصحيحة تنبذ كل أشكال الوساطة، وكل أشكال الخوف من غير الله، وكل أشكال العمل الذي يتملق من خلاله صاحبه لكي يحظى برضا من معه، أو من بأيديهم مفاتيح أغراض مادية. إنها بشكل آخر : المنهج الداعي إلى تربية المسلم على خلق الجهاد النفسي لمقاومة كل أشكال الرياء والشهرة وتحقيق المصالح الذاتية؛ لأن أساس الجهاد مخافة الله وطلب رضاه ورحمته وهدايته، مصداقا لقوله تعالى : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}(العنكبوت : 69).

وبالجملة نقول إن الخلل واضح في تديننا وعملنا وسلوكنا وهو ما يؤثر، بشكل عام، على حياتنا الدعوية، ولعل مرد ذلك إلى المنهج الذي به نحيى وبه نفهم ونتعامل وندعو، ولن تستقيم حياة الدعوة إلى الله تعالى إلا إذا تمسكت بالمنهاج النبوي الصحيح، الذي من أهم مداخله : فهم المدلول الحقيقي للاخلاص جملة وتفصيلاً، وإلا فإننا في حاجة ماسة إلى تصحيح الأساس الذي تقوم عليه حياتنا قبل أن يسقط : {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم}(التوبة : 109).

ذ. عبد العزيز انميرات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>