ذئاب وغزلان


قامت طائفة من الذئاب في زمن من الأزمنة، تنظر إلى حالها ومآلها، فما وجدت نفسها على شيء. وطافت حول الغابة شرقا وغربا فوجدت الغزلان يعيشون عيشة راضية، ينعمون بكل ما يحتاجونه من كلأ وماء وهناء وتفاهم وتلاحم حول غزال واحد ينصت إليهم، يستشيرهم في أمورهم ويطيعون قراراته.

لم ترض الذئاب بما كانت عليه من خمول  وجمود وتقوقع وطاعة عمياء لثلة منهم لا ترى إلا مصالحها، فثارت ضد هذه الأخيرة، وقلبت كل أسس مجتمعاتها، واقتبست من الغزلان ما هم عليه من تنظيم ونظام، وكونوا كتلة واحدة، في حين قسموا الغزلان بعد أن استطاعوا زرع البلبلة في صفوفهم بمكرهم ودهائهم، وجعلوهم قطعانا، ووضعوا على كل قطيع ذئبا يرتدي رداء غزال، ولم يكتف الذئاب بهذا، بل قسموا جميع خيرات الغزلان، ونقلوها إلى كهوفهم، وأكلوا كل متمرد حر لا يرضى بالذل والهوان وباستغلال  خيرات حظيرته.

لمتجد الذئاب مقاومة قوية من طرف الغزلان نظرا لقمع رؤساءهم لكل محاولة، فعمدت الذئاب إلى حظيرة متميزة مشهورة  والتفاف الغزلان حولها، فدنسوها بقوائمهم القذرة، وجمعوا كل ما كان متفرقا عندهم من خنازير في  هذه الحظيرة المقدسة من طرف آباء وجدود الغزلان.

ثار الغزلان وانتفضوا ضد ذلك: لكن قياداتهم قمعتهم بدعوى أن  لكل حيوان الحق في امتلاك جزء من الغابة ليعيش فيها.

لم تكتف الخنازير بما أعطتها الذئاب من أراضي ممتازة، بل عمدت إلى الاستيلاء على كل أرض جيدة بالقوة والقهر. وبأكل وقتل كل غزال متمرد، وتشريد صغاره واستحياء غزالته أو غزالاته.

كون الغزلان، بل بعض الغزلان الأحرار، قطعانا، ووضعوا على رأس كل قطيع رئيسا يطيعونه وينفذون أوامره، وهكذا خلقوا البلبلة في صفوف الخنازير والذئاب وفي كل خائن من الغزلان، خصوصا قاداتهم الذين كانوا خاتما في أصبع، بل أصابع كل خنزير وذئب، ويقومون بمغامرات فدائية من حين لآخر، هنا وهناك ليرهبوا بها عدوهم الأصلي الخنزير ومدعمه الذئب وينبهون بها كل خائن من قاداته، بل كل قاداتهم لأنهم جميعا خونة.

لم ترض الذئاب عن هذا الوضع، فعمدت إلى تكوين جماعات كبرى، ووضعت على هرم هذه الجماعات ذئبا يخضع له مشرق الغابة ومغربها. وكونوا بذلك قوة عظمة يقهرون بها كل متمرد عليها.

وتقوت الخنازير بقوة الذئاب، بل  أًصبحت لها آراء مستقلة ومواقف خاصة تفرضها على الغزلان، فتأكل كل غزال ظهرت قرونه وتسبي وتجوع صغاره وتحطم حظيرته وتحرق بيدره على مرأى ومسمع من كل أحياء الغابة دون أن يحرك أحدهم ساكنا.

أما رؤساء الغزلان، فليس لهم إلا أن يجتمعوا من حين لآخر في ناحية من نواحي الغابة الواسعة ليأكلوا ويشربوا ويتمتعوا بما لذ وطاب ثم لينهوا اجتماعهم، بل اجتماعاتهم بقرارات قوية شجاعة تهدد كيان الذئاب والخنازير، ألا وهي الإدانة والتنكير.

وما من غزال تجرأ وتجاوز إلا ونعت بالإرهابي واجتمع ضده الذئاب والخنازير وخونة الغزلان ومنعوا عليه وعلى قطيعه كل ضروريات الحياة ليثور ضده ويزيله من قيادته.

استمرت تعسفات الخنازير سنوات طوال، واستمر معها دعم الذئاب لهذه التعسفات، ودامت بدوامها الاستنكارات الجوفاء من ممثلي الغزلان الرسميين إلى أن اشتد عود بعض الغزلان، وأصبحوا يقدمون أنفسهم الواحد تلو الآخر قربانا في سبيل الغزلانية، من أجل طرد الخنازير من حظيرتهم، ومن أجل إرهاب الذئاب في عقر كهوفهم.

وهكذا، كلما وقعت واقعة في أي جهة من الغابة، سواء في جهة الخنازير أو الذئاب أو حتى الغزلان، إلا واتهم غزال بفعلها، وقدم ضحية، رَغْمَ أن كثيرا من الأحداث تقوم بها جهات أخرى غير الغزلان، ورغم تأكد الذئاب من ذلك، إلا أنهم يصرون على اتهام الغزلان العدو اللذوذ من قديم الزمان. ومع الأسف لا يستطيع أحد أن يستنكر قرار الذئاب، بل يصفق له كل حيوانات الغابة من قادة  ومتذيبين.

وذات يوم  حصلت كارثة عظمى، لقد تحطمت كهوف وغيران الذئاب بفعل فاعل، فمات منهم الكثير وأصيب الأكثر. وتهددت مصالحهم وقوتهم، لم يعرفوا الفاعل، لكنهم لم يترددوا في اتهام غزال وسيم، عرف بتمرده على الذئاب وأعوانهم، وانقسمت آراء سكان الغابة إلى أقسام:

-طبقة الخنازير والمتخنزرين من كبار الغزلان استنكروا الهجوم واعتبروه جريمة كبرى، وطالبوا بمحاكمة الغزال الوسيم رغم عدم ثبوت تورطه في القضية.

-طبقة عامة الغزلان فرحت لهذا الهجوم، واعتبرته رد فعل صائب لتذوق الذئاب مرارة ما يعانيه الغزلان من تقتيل وتجويع من طرف الخنازير.

-وجماعة من مختلف الحيوانات رأت أن الغزلانية تمقت التعدي على الأبرياء ولو كانوا أعداء محاربين.

-وجماعة…

-وطبقة..

-وحزب…

ماذا يفعل الذئاب أمام هذا الوضع، أما هذا الاعتداء، وأمام هذه المواقف المتباينة، هل يسكتون ما دام لم يعرفوا الفاعل الحقيقي. لا هذا لا يليق بذئاب يحكمون الغابة كلها ويضربون في عقر كهوفهم ولا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم وعن سيطرتهم على الغابة. لا، لابد من ضحية، وسيكون من الغزلان، ولن يكون  أي غزال حتى لا يتهم الذئاب بعدائهم للغزلانية، لكن سيكون غزالا متمردا، إنه الغزال الوسيم الذي سيضرب، بل فعلا ضرب وضربت كل الحظيرة التي تؤويه، وستضرب كل حظيرة تأوي أي غزال غيور على غزلانيته.

ماذا فعلت الحيوانات في الغابة، صفت كلها لضرب الحظيرة التي تؤوي الغزال الوسيم، وشجعت الذئاب على ضرب كل حظيرة حامية لمتمرد من الغزلان حتى الفئران والقطط والكلاب أعداء الذئاب صفقوا لرد الفعل هذا لا لشيء إلا ليظهروا، كاذبين، مساندتهم للذئاب عسى ألا يتهموا بالغزلانية وألا تزعزع زعامتهم لحيواناتهم.

ذ. محمد رفيق

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>