خطب منبرية : الإرادة والسعي سبيلا  العزة والكرامة


الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو، إليه المصير، نحمده ونشكره ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله الملك الحق المبين،ولي المتقين، وقاصم الجبارين، القائل في محكم التنزيل : {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحوراً، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مومن فأولئك كان سعيهم مشكورا، كُلاًّنمُدِ، هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا}، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من الخلق وحبيبه، أرسله بالهدى والبينات، وجعله على شريعة من الأمر، وبعثه هاديا إلى الحق ودليلا عليه، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

أما بعد : عباد الله، فإن الله تعالى خلق الخلق وقدره تقديرا، وبناه على نظام ثابت، ونسق بديع، وسنة ماضية إلى يوم القيامة، لاتتبدل ولا تتخلف، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. وإن من راعى تلك السنن، واحترم ذلك النظام، وتأمل ذلك النسق واستفاد منه، ليجد طريق السعادة معبدا، وباب الأمن مفتوحا، ومن أعرض عن سنن الله وغفل عن آياته كان حريا به أن يضل ويشقى، قال تعالى : {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}.

أيها المسلمون، إن الذي يتأمل واقع المسلمين اليوم، ليعجبمما وصلوا إليه من ذل وهوان واستضعاف، حين صاروا غرضا يرمى، وفيئا ينتهب، فلا يضجون ولا يستنكرون ولا يدفعون عن أنفسهم ضرا ولا أذى، فكأنما هانوا على أنفسهم قبل أن يهونوا على غيرهم، وكأنما انطبق عليهم قول القائل :

من يهن يسهل الهوان عليه

مـــا لجـــرح بميت إيـــلام

وكأنهم قد صاروا في غفلة عن نداء ربهم العليم الحكيم : {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، أم ضربت عليهم الغفلة بأسداد فهم لا يشعرون أنهم أموات غير أحياء؟ وإن طائفة من المسلمين لتتساءل : ما الذي حدث؟ وكيف صرنا إلى ما صرنا إليه؟ وما لنا ضعفاء أذلاء، يكاد العدو الكافر يتخطفنا من كل مكان، فهو لا يكاد ينتهي من ثور حتى ينصرف إلى آخر، فمن أفغانستان إلى العراق إلى السودان، بل إلى الكويت والسعودية، وأما فلسطين فالأمر فيها أعتى وأشد، وكأن لسان المتعجبين يقول : أنى هذا؟ والله تعالى يقول : {وأنتم الأعلون إن كنتم مومنين} أولسنا مومنين؟ وهو سبحانه يقول : {ولن يجعل الله للكافرين على المومنين سبيلا} وينسى هؤلاء أن الله عز وجل خاطب طائفة منا فقال سبحانه : {قل هو من عند أنفسكم}، ذلك بأن الغفلة عن سنن الله تعالى مؤدية إلى الهلاك والبوار والخسران. ونحن هُنَّا على أنفسنا قبل أن نهون على الناس، فأصابنا الهوان، وها هو العدو المتربص بنا ينقص من أطرافنا، ويستحل منا البنيان، ثم يستحل الإنسان، ثم يستحل القرآن، ثم يستهين بمن بلغ القرآن، وما فينا عرق ينبض، أو وريد يغضب، أو قلب ينتفض، استهان العدو بالبنيان، فإذا ديار المسلمين تهدم وتقوض على رؤوس أصحابها، فالجرافات والدبابات والطائرات لا تكاد تهدأ حتى تقتلع البيوت وتهدم المنازل وتخرب العمران، ثم استهانوا بالإنسان فإذا دم المسلم أهون شيء في الأرض، تنتهك الحرمات، وتستباح الأعراض، وتزهق الأنفس، ويمثل بالأبدان،وإذا المسلم يقتل ويصلب وينفى من الأرض، ومن الغريب أننا رأينا عبر وسائل الإعلام مظاهرات مناهضة في أمريكا نفسها للسياسة الأمريكية، وهي تحمل لافتات مكتوب عليها : “لا للدم من أجل النفط”، ولا تكاد تخرج مظاهرة في العالم الإسلامي، أو حركة احتجاج ضد العدوان الغربي، حتى تقمع وتلجم، وكأنها مظاهرات ضد الأنظمة القائمة، وما ذلك إلا لأن أنظمة الجور تخشى أي حركة، ويكاد ينطبق عليها قول الله تعالى : {يحسبون كل صيحة عليهم} وهاهي الحملات العدائية تتناول القرآن الكريم، زاعمة أنه المؤصل للإرهاب، وتمتد به هذه الحملة إلى بعض البلاد الإسلامية مطالبة بما يسمى تجفيفا لمنابع التطرف، وهم لا يعنون بذلك غير ظاهرة التدين، فيطالبون بمراجعة المناهج الدراسية، ومحاصرة بعض دور القرآن الكريم، والمدارس الشرعية. وثالثة الأثافي ما سمعنا هذا الأسبوع مما نجم في أمريكا، عندما عرض بعض الكبراء فيها إلى التعرض لشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، زاعمة أنه إرهابي. فما الذي بقي أيها المسلمون؟ وأي حمى لم يستبحه العدوان؟ وأي حرم لم يدنسه؟ ومعظم المسلمين قاعد غافل عما يجري من حوله، ومن تحرك لا تتجاوز حركته الحوقلة والتحسر. ولعل بعضنا أن يتساءل : وما المخرج إذن من هذه الظلمات؟ وما حل هذه الأزمات؟ إنا نعلم علم اليقين أيها الإخوة أن الحل والمخرج إنما هو في كتاب الله تعالى، ولكن كيف؟ إن الحاجة إلى تدبر كتاب الله تعالى قائمة، فالله عز وجل لم يترك الأمة هملا، بل هداها إلى صراط مستقيم، ودعاها إلى التمسك بالحبل المتين، والله تعالى يقول : {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وأي حالة أشبه بالموت أشد من الحالة التي يجد المسلمون اليوم أنفسهم فيها؟

إننا إذا تأملنا كتاب الله وجدنا فيه منهجا بينا، وطريقا لاحيا، لا عوج فيه ولا أمت، ومن ذلك ما ورد في الآيات الكريمة التي وردت في مطلع هذه الخطبة، من سورة الإسراء : {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحوراً، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مومن فأولئك كان سعيهم مشكورا}. فمن شروط النهوض واسترجاع الكرامة هذه الشروط الثلاثة التي يفصح عنها كتاب الله تعالى، وأول هذه الشروط : الإرادة. وأنى لمن لا يملك الإرادة أن ينال شيئا من العزة والكرامة؟ وأنى له أن يتخلص من الذل والهوان؟ ولعل معترضا يقول : وكيف هذا؟ وهل هناك من يرضى لنفسه المذلة والصَّغَار؟ هل هناك من لا يريد أن يكون عزيزا مكرما؟ والجواب أن للإرادة مظاهر، إذا وجدت وجدت، وإن انعدمت انعدمت، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قيل : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى<. فيفهم من هذا الحديث الشريف أن هنالك من يفقد في نفسه إرادة الخير، لأنه لم يتخذ لذلك أسبابا، والذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أن يسأل الله له الجنة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : >فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود<، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فهذا كله يؤكد أن الإرادة شرط أول، وأن الشرط الملازم لها، وهو الشرط الثاني، هو السعي كما نطق بذلك كتاب الله عز وجل، وهذا السعي ينبغي أن يكون على منهاج النبوة، لأن الله تعالى يقول : {وسعى لها سعيها}، أي السعي الصالح المنسجم مع عظمة الهدف وحرمته، فلابد من العمل الصالح، وإلا بطل العمل، فالذي يعم لنفسه أو لغيره أنه يريد، ثم هو لا يسعى، كاذب في زعمه، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم (العاجز) في مقابل : (الكيس)، فالكيس من دان نفسه، أي حاسبها، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، فكأن الإرادة هي النية، والسعي هو العمل، وكما يشترط في النية الإخلاص، يشتط في العمل الصلاح، وكل ذلك مرتبط بالشرط الثالث الوارد في الآية الكريمة، وهو الإيمان : (وهو مومن)، والإيمان في الحقيقة هو الشرط الأول في المعنى، وإن كان ثالثا في الرتبة اللفظية، ذلك بأن الصيغة التي جاء بها كتاب الله تعالى تجعله حالا، في مذهب النحاة، وهذا يعني أنه ملازم للشرطين الأولين : الإرادة والسعي، فلا الإرادة، أى النية، تقبل بدون إيمان، ولا السعي، أي العمل، يقبل بدون إيمان، فيكون الترتيب على هذا الأساس هو أن نقول : إن شروط النهوض والتقدم ثلاثة : الإيمان ثم الإرادة، والسعي وهو العمل.

أيها الإخوة، إن كل شيء مرتبط بإرادة الله تعالى ومشيئته، وهذا لا يكون مثبطا عن العمل، بزعم زاعم أنه مادام كل شيء مقدرا، فما الحاجة إلى العمل؟ فنّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الزعم، وبين للسائل وجه الحق، فقال عليه السلام : >اعملوا، فكل ميسر لما خلق له<، وهذه الإرادة الإلهية والمشيئة الإلهية هما اللتان ربط بهما الحق سبحانه الشروط السابقة فقال سبحانه : {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحوراً} ثم قال سبحانه في مختم الآيات : {كلا نمد، هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا}. فالله عز وجل يرزق المومن والكافر، والمطيع والعاصي، تفضلا منه سبحانه، ولذلك لما قال إبراهيم \، متوجها إلى الله عز وجل بالدعاء : {رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} جاءه الجواب من عند الله عز وجل على هذه الصيغة : {قال ومن كفر فأمتعه قليلا، ثم أضطره إلى عذاب النار وبيس المصير}.

فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا الإخلاص في الأعمال زاداً، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وأجارنا من عذابه الأليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

üüüüüü

الحمد لله واهب النعم، كاشف الكرب والنقم، وأصلي وأسلم على النبي المصطفى الأكرم، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد، أيها الإخوة المومنون، فقد روي عن بعض المتقدمين أنه قال : (من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب).

وروى أن قوما من الأشراف ومن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب، فشق ذلك على أبي سفيان، فقال سهيل بن عمرو : إنما أتينا من قبلنا، إنهم دُعوا ودُعينا “أي إلى الإسلام” فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد لهم في الجنة أكثر.

فاتقوا الله عباد الله واستبقوا الخيرات، واعقدوا العزم على العمل الصالح وأخلصوا النيات، واشحذوا الهمم الكليلة، واستعينوا بالأعمال الجليلة،واستعينوا بالصبر والصلاة، واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم هذا وأكثروا من الصلاة والتسلم على هادي الورى إلى الحق المبين، اللهم صل على سيدنا محمد النبي المصطفى المجتبى من دون الخلق أجمعين، الهادي بإذن ربه إلى صراط مستقيم. ورضي الله تعالى عن آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته أولي التُّقى والنُّهى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..

الدكتور حسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>