قضايا فكرية : هبوطنا الحضاري في سياق هيمنة العولمة : أسئلة التخلف والاختراق


هبوطنا في سياق العولمة

لقد فتحت السياسة الدولية الجديدة الباب على مصراعيه لترسيخ استراتيجية السيطرة على الشعوب، كرؤية استشرافية تقوم على مقاسات علمية وحسابات دقيقة وتحولات مسار التاريخ الإنساني، الشيء الذي يفسح المجال – أمامها – كي ترسم للغد البشري، في إطار العلاقات بين الأمم والشعوب، خريطة جديدة تتفق وما تمليه المصالح العاجلة والآجلة. وعلى هذا الأساس، سيكون النظام الدولي الجديد، الذي بدأ افتراضيا في أطروحات إعادة التحيين، على مقاس غريب علينا نحن الشعوب والأمم التي تكتفي فقط بالمتابعة واستهلاك خطاب الجلد الذاتي بما يكفي لوأد كل مبادرة ذاتية للانعتاق من إسار الدوران في دائرة مغلقة لا بداية لها ولا نهاية من الأسئلة المزيفة.

في هذا السياق الخاص برؤية الذات في علاقتها بالغير، تظهر جليا أهمية الاشتغال بالقضايا والإشكالات الثقافية المعقدة، من قبيل قضية حوار الحضارات وإشكال حوار الثقافات، الشيء الذي يبين بكل وضوح أن فعل الكتابة في هذه القضية وهذا الإشكال، يندرج – بهذا الشكل أو ذاك – في إطار سلسلة الاهتمامات الثقافية التي تشغل بال الكثيرين من أولئك الذين ترهقهم عملية مراوغة الأسئلة المزيفة التي تملأ الساحة الثقافية بشكل يكبح كل محاولة للانخراط الفعلي في ممارسة حق النقد الذاتي وتحديد أرضية الانطلاقة الصحيحة باتجاه مستقبل نأمل أن يكون أفضل من اليوم والبارحة، ومن ثم السير باتجاه نفض الغبار عن ركام متهالك من الأسئلة الأساسية التي تمت إحالتها – بهذه الصيغة أو تلك – على قسم المهملات من قبل من لا تهمهم مصلحة الأمة، ما دامت أسئلة التغيير تقض مضاجعهم السياسية، وتفضح زيف خطاباتهم الإيديولوجية، التي أظهر التاريخ – الذي هو مرآة الناظرين في هرم النهوض والسقوط- حجم الزيف الذي يغلف الحقيقة، ويجدد الأقنعة التي تحملها وجوه من ألفوا ممارسة لعبة التزييف السياسي كلما ظهر لها أن ما  يربطها وتحقيق مصالحها – ولو كانت على حساب مصالح الأمة – مجرد خيط دقيق لا يقتضي سوى الإمساك بأحد طرفيه ليتحقق الإمساك بالباقي.

في هذا السياق، قد لا نجانب الصواب إن قلنا إنه أريد لهذه الأمة أن تبكي حظها مرات عديدة على ما لحقها من هبوط حضاري خطير، كان سببا مباشرا في تهالك منظومتها الحضارية، بما فيها منظومتها الدفاعية، التي تكفل لها القدرة على رد الاعتبار كلما انتهكت حقوقها داخل مجتمع دولي لا يعترف إلا بلغة القوة.

وتزداد صعوبة السير باتجاه  المستقبل النهضي الذي ننشده عاجلا قبل أن نتمناه آجلا، كلما استحضرنا – هاهنا – ما تتعرض له هذه الأمة،  التي أريد لها أن تكون ذليلة بعدما كانت قوية، ومشتتة بعدما كانت موحدة، ومهمشة بعدما كانت عالمية في رسالتها ونموذجها الحضاري – الثقافي.

أقول: تتعرض أمتنا لمضايقات عدة في محاولة للقضاء على ما تبقى من حصن الممانعة الثقافية الذي به تتمتع وتتميز عن غيرها من الأمم والشعوب، التي انساقت – بهذا الشكل أو ذاك – في متاهات المطابقة الحضارية – الثقافية لنظام استفرد بهامش واسع من الحرية، جعلته يعيث فسادا فوق الأرض، ضاربا عرض الحائط المبادئ السامية المؤسسة لحق الشعوب في تقرير مصيرها وبناء كيانها، واختيار خطابها الحضاري الثقافي الذي تؤمن بأفضليته وأحقية  الانتساب إليه، ما دامت الوقائع والأدلة تثبت حق الشعوب في الاختلاف.

يتمخض الكلام -إذن- عن قضية الحوار الحضاري – الثقافي عن مجموع الأسئلة الحرجة والشائكة التي تقتضي – من جهة -  الجرأة في التحليل والقول، ومن جهة أخرى إعادة صياغتها حتى تتلاءم وحجم المعاناة التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية في ظل نظام دولي يدمر أكثر مما يبني، ويدوس فوق تاريخ التكون الحضاري،  الثقافي البشري بعنف مخلفا وراءه خريطة حضارية – ثقافية جديدة ستظل شاهدة على عصر ماتت فيه آدمية الأقوياء، واستيقظت – بدله – بهيمية شرسة تأكل الأخضر واليابس ، ما دام الأمر يقتضي تحقيق الذات ولو على حساب الغير، وما دامت المصلحة والمنفعة تقتضي ذلك.

فأي خيار أمام هذه الأمة ما دامت الأمور تسير على غير ما ترتضيه؟ وأي مهمة سيتحملها مثقفوها ما دام خطاب العولمة يأخذ بسياسة تحقيق الذات؟.

أيندرجون ضمن قافلة شهداء العولمة، تاركين القاطرة تأخذ المسار نفسه الذي رسمته إبداعات المعولمين، بل ومتهافتين ومهرولين باتجاه القطب الواحد الذي أمسك بإحكام ببوصلة تحديد الاتجاهات، معلنين – على أقل تقدير – ضربا من المصالحة مع نظام سياسي يأخذ بأسلوب تجفيف المنابع لتعطش الشعوب  الحرة، فتلجأ – مضطرة – إلى المنبع الذي تم إعداده مسبقا لمثلمن يهرولون – بلا حدود – وراء السراب، بعدما ضيعوا الهوية في مزاد علني بيعت فيه ثقافات شعوب بعينها بالجملة تارة، وبالتقسيط تارة أخرى؟.

أم على خلاف كل ما سبق، يدخلون في صراع محتد ضد نظام يعرف كيف يسكت الأفواه الداعية إلى التحدي والممانعة والعقول المحرضة على التصدي، إما بقمعها أو خلعها أو تنصيبها لتتحمل مسؤوليات جسام ليس لصالح الأمة  بقدر ما هي لصالح الغير، وهو ما نلمسه بشكل واضح للغاية في كثير من أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية والثقافية، التي لا تخرج عن دائرة الإملاءات المباشرة تارة وغير المباشرة تارة أخرى، وما كان لهذه الإملاءات أن تجد لنفسها الطريق باتجاه التطبيق والتنفيذ لولا تخاذل المسؤولين ومن تبعهم من ذيول المثقفين الذين دفع بهم إلى استهلاك ما يتوفرون عليه من طاقات إبداعية في قضايا كان من المفروض تجاوز حتى التفكير بخصوصها،ناهينا عن تخصيص حيز من الزمن لفك ارتباطاتها المتشعبة، التي تبين، بكل وضوح، أن الإجابة على الأسئلة، يقتضي – ابتداء – الصياغة الجيدة لها، والأخذ بعين الاعتبار أن السؤال الحق الذي يثمر  الإجابة الصحيحة، هو ذاك الذي ينحت في طبقات الإشكالات المعقدة؛ بل وهو- كذلك- ذاك الذي يفسح المجال أمام المتسائل كي يتعاطى مع هذه الإشكالات ببصيرة نافذة لا يتوفر عليها إلا أولوا الألباب، من أولئك الذين أخلصوا النية في سؤالهم النقدي، وباعوا أهواءهم ومصالحهم الخاصة ليشتروا مستقبل أمتهم التي تتهالك تدريجيا، بموازاة مع الحالة المرضية الخطيرة التي مرت بها، وما تزال، والتي تزامنت مع مسلسل استنزاف ثرواتها الطبيعية وإحكام القبضة على ثرواتها البشرية بما يكفي لإحداث عجز حضاري خطير يشل حركتها باتجاه مستقبل أصبحت تتحكم في صورته وشكله  الثقافة الرقمية الجديدة ، منذ الآن.

فما كان لها أن تتعرض لهذا الوضع لولا تقاعس مسئوليها، وتهاونهم عن أداء واجباتهم، وما التزموا به أمام الأمة يوم انتخبهم المستضعفون. كما أنه ما كان لها أن تتعرض، لما تعرضت له، لو لم يصب داء الغثائية النفوس ،فامتثلت للداء بدل امتثالها للشفاء من أمراض قرون من الانحطاط والتخلف، التي أصابت العقل المبدع في هذه الأمة.

غير أنه ما كان لها أن تبقى صامدة في وجه إعصار ثقافة الاجتثاث الحضاري لولا قوة جهاز المناعة فيها، والمقصود بذلك، الجانب العقدي الذي لن تهزم أمة من الأمم، ما أدركت أن ثمة أمرين لابد من توفرهما لامتلاك هذا الجهاز الضروري، وهما: صحة منبعه من جهة، وتشبثها به وجعله الجدار الذي تتحصن به ابتداء وانتهاء، والذي لا بديل عنه، من جهة أخرى.

العولمة واستراتيجية تحطيم حصون الممانعة

من هنا نفهم بعض أسباب إصرار منظومة البغي الدولي الجديد على تحطيم هذا الحصن المتبقي، ومن تم التسرب إلى داخل جهاز مناعة الأمة من خلال زرع فيروسات ثقافة العولمة في جسد الثقافة والتربية والإعلام والتعليم، لينهار الجسد نهائيا، فتسهل عملية استبدال المنظومة الثقافية المحلية بمنظومة ثقافية مغايرة، تسرع من وتيرة عملية التغيير باتجاه القبول – كليا – بثقافة العولمة الجديدة وحوار الحضارات والثقافات، التي هي – أولا وأخيرا- ثقافة الإمبريالية الجديدة التي تغطي ملامحها الحقيقية الحاملة لكل أصناف ثقافة الغاب ونظمه، وفلسفة قانون الانتخاب الطبيعي، بوشاح تظهر من خلاله أنها تتقدم بالبشرية باتجاه المدنية والتقدم، وهو ما يشفع لها – حسب  اعتقادها واعتقاد أي نظام استعماري – ارتكاب مختلف جرائمها في حق الإنسانية جمعاء التي ضاعت في دوامة صراع الفلسفات ونظريات العلاقات الدولية الجديدة.

فلا بناء بدون هدم  في نظرها؛ وما دامت الغاية تبرر الوسيلة، فلا مانع من استعمال كل ما من شأنه تحقيق هذه الغاية، ولو كانت بالوسائل القذرة، كالحروب وتجويع الشعوب وإفقار الأمم وزعزعة الأنظمة والتدخل في الشؤون الداخلية بما يكفي لمنع أي مبادرة تحرر كلي، أو حتى جزئي، من نظام يبتلع كل شيء ما دامت عجلة تقدم المستعمر في حاجة ماسة إلى المزيد من القوة الدافعة، التي كثيرا ما يتم استجلابها من معاناة الشعوب المقهورة بعدما تكالبت عليها الأنظمة واستفردت كما يستفرد الذئب بالقاصية من الغنم.

وتزداد صورة الاستغلال  بشاعة إذا ما استحضرنا – هاهنا – واقع الحال الاقتصادي لهذه الأمة التي حباها الله تعالى برصيد من الثروة الطبيعية المتنوعة والغنية، التي لو حسنت النيات لكانت خير معين على إعادة إعمار البلاد الإسلامية بما يكفي لجعلها تمتلك الشوكة الحضارية.

أما وقد ضيعت بوصلة الطريق، فإنها – لا محالة – قابعة في المكان نفسه إن لم نقل، إنها تسير بخطى متسارعة باتجاه تخلف التخلف بما يفقدها القدرة على الإبصار  الحضاري واستشراف آفاق هذه الأمة في زمن إكراه حضاري – ثقافي خطير يلزم الشعوب بالأخذ بنظام حضاري لا يخدم إلا واضعيه.

فكيف لهذه الأمة أن تقوم بواجب الدفاع عن الذات، والدخول في الدوامة اللامتناهية، لحوار الحضارات، ووعيها مفتقد لنسب كبيرة من الخصوبة الثقافية، التي تفرز – فيما تفرز – الأسس العامة للانطلاق باتجاه الغد القادم لا محالة بتحديات كثيرة، لا يقوى على التغلب عليها إلا من امتلك رؤية استشرافية عميقة وخبيرة بتقلبات التاريخ الإنساني.

وكيف لها : كذلك، أن تكون على هذا الشكل، وهي على ما هي عليه اليوم: رهينة حالة من الاستضعاف الحضاري، ومكبلة بتاريخ مثقل بالنكبات والنكسات والهزائم والتراجعات التي مست بشكل سلبي الشخصية الحضارية للأمة ونفسية الإنسان الذي أضحى مجرد مستهلك للاختيارات الحضارية الدولية بدل المشاركة في تحديد لونها وحجمها ومسارها، الشيء الذي فرغ هذه النفسية من كل القدرات والإمكانات التي يتميز بها جنس الإنسان عن باقي الأجناس الحية، ومنها: إمكان إعمال العقل الاجتهادي الذي ما ضاع في أمة إلا وأصيبت بضياع بوصلة الطريق، فأصبحت كنبات دوار الشمس الذي جبل على الدوارن باحثا عن النور القادم من أشعة الشمس.

ذ. عبد العزيز انميرات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>