توسمات جارحة : تعال نتقي الله ساعة


من الكلمات المأثورة التي تطالعنا في مصنفاتنا العربية الموثوقة قول أحد الصحابة رضوان الله عليهم لبعضهم البعض حين يحسون بفتور الإيمان في قلوبهم >تعال نؤمن ساعة<، وهي قولة لا تفيد أنهم ابتعدوا عن الإيمان وإنما تفيد إضافة شرارة جديدة لنور الإيمان المتقدة في نفوسهم بذكر الله أو تدارس قرآنه، في وقت كان القرآن فيه يمشي على قدمين,وكان الحاملون للوائه لا يتركون الآية منه إلا بعد حفظها والتيقن من تغلغلها في أعماقهم ثم العمل بها وتطبيقها في حياتهم . وفي زماننا الحاضر ونحن نعيش واقعا موصوما بالغثاء والوهن نقول “تعال نتق الله ساعة” و نستعيد مفهوم التقوى وسمات المتقين  عسانا نكتسب خلقا من الأخلاق التي كان يتصف بها المتقون،كي نلج دائرة الإيمان الحقيقي ونكتسب الشخصية الإسلامية الحقة حتى ندفع عن واقعنا هذا الطابع  الغثائي الواهن، عسانا نجد مخرجا لأنفسنا وذواتنا وأمتنا من هذا الهوان المذل الذي أصبح يركبنا في كل لحظة من لحظات حياتنا سواء في ممارستنا اليومية وعلاقاتنا مع بعضنا البعض أو علاقاتنا مع الأمم الأخرى، ألم يعدنا عز وجل بأنه : {من يتق الله يجعل له مخرجا} .فتعالوا نتزود ولو بقليل من الزاد {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} .

ورد في لسان العرب أن “تَوَقَّيْتُ واتقيت الشيء وتقيته أتقيه وأتقيه تقى وتقية وتقاء :حذرته، والإسم التقوى، التاء من الواو والواو بدل من الياء، وفي التنزيل العزيز : وآتاهم تقواهم أي جزاء تقواهم، وقوله تعالى : {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} أي هو أهل أن يتقى عقابه وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته . وقوله تعالى : {يا أيها النبي اتق الله}}، معناه اثبت على تقوى الله ودم عليه” (1)،فالمعنى اللغوي للتقوى هو الحذر والثبات وقد ورد في الآيات السابقة، وهناكدلالات تتفرع عن هذا المعنى وردت في القرآن الكريم تنبئ عن شمولية مفردة التقوى ومدى انسجامها مع التكامل بين التصور والسلوك الذي يجب أن يسم الإنسان المؤمن . من هذه الدلالات ما قاله الراغب الأصفهاني : “التقوى جعل النفس في وقاية مما يُخَاف، هذا تحقيقه، ثم يسمى الخوف تارة تقوى والتقوى خوفا حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضى بمقتضاه”(2) . والخوف من الله يستوجب العمل بشرعه والانضباط بمقوماته ومعاييره كما جاء في كتاب الله . ويقول سيد قطب في مفهوم التقوى :”التقوى حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق، طريق الحياة”(3) .من هنا نرى أن التقوى بناء مستمر للشخصية الواعية الخاشعة المتناغمة مع الكون المستسلمة لقيم الخير والحق والعدل الثائرة على البغي والظلم والفساد، ولذلك نجد أن رسالة رسل الله وأنبيائه تبتدئ بدعوة أقوامهم إلى الاتصاف بالتقوى بوصفها تهيئة ضرورية لتلقي كتاب الله وتعاليمه يقول تعالى على لسان عيسى : {فاتقوا الله وأطيعون}(آل عمران :50) . وقد تكررت هذه الدعوة في سورة الشعراء على لسان أنبياء الله(4)، وهذا التكرار يبين أن التقوى تعتبر هي الهدف العام الذي بعث من أجله رسل الله، وكانت من أجلها التشريعات والأوامر والوصايا، وهي إن وجدت في قلب بشر لم يحتج بعدها إلى رقيب أو حسيب، لأن تقواه حاجز له عن كل شر ودافعة له لكل خير(5) .

فمن هم أولئك المؤهلون لولوج عمق هذه الدلالات والتلاحم معها وما هي سماتهم التي يتصفون بها وتميزهم عمن سواهم؟؟ .إن أول الصفات التي تطالعنا في القرآن الكريم نجدها في مستهل سورة البقرة يصف فيها سبحانه وتعالى فئة من المهتدين بهدي كتابه والمنسجمين مع وحيه : {ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يومنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولائك على هدى من ربهم و أولائك هم المتقون”(البقرة : 1- 5) .لقد ذكرت الآية بعض صفات المتقين المؤهلين للانتفاع بكتاب الله وهي :

1- الإيمان بالغيب، أي التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهو يأتي بعد الإقرار بالشهادتين، وفي هذا الصدد يدهب بعض العلماء بأن الشهادتين تعني كلمة التقوى التي جاءت في قوله تعالى مادحا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :”وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها” (الفتح : 26) .

2- إقامة الصلاة، أي إعلان حقيقة الصلة التي تجمع بين الله وعبده وهي إقرار العبودية له وحده سبحانه وإحياء معاني الإيمان والخشوع والشكر، كما أنها تجديد للعهد مع الله وتطهير للنفس {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}(العنكبوت : 45) .

3- الإنفاق لله، وهو يشمل الصدقة والزكاة وشتى ألوان البر من أجل إشاعة روح التكافل والتضامن والأخوة بين عباد الله، ومن أجل تطهير النفس من البخل والشح وتعويذها على العطاء .

4-  الإيمان بما جاءت به الرسل والأنبياء، أي التصديق بما جاء في كتاب الله عنهم، يقول تعالى : {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نومن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا}(النساء: 151-150) .

5-  اليقين بالآخرة, أي التيقن بأن الإنسان لم يخلق عبثا وأنه سوف يحاسب على عمله .

إن  المعاني الجامعة التي وردت في الآية السابقة تفصل الصفات التي يتحلى بها المتقي وتضع المعالم لمن أراد أن يسلك طريقه .

ومن الآيات الجامعة لصفات المتقين الأخرى قوله تعالى : {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم، الذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله، والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وَقِنَا عذاب النار، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}(آل عمران : 17-15) . وهي كلها سمات وصفات تحقق الكرامة والسمو للحياة الإنسانية عموما .

وقد يطول بنا الحديث إذا حاولنا تقصي كل صفات المتقين كما يريدهم الله عز وجل في القرآن الكريم، ولذلك سوف  نكتفي بذكر صفة أخرى مهمة من صفات المتقين وسماتهم وهي التواضع، وهي صفة قد تحمل دلالات متنوعة ينفرد بها الإنسان الصالح منها الحلم والصلاح والإصلاح كمـا في قولـه تعالى : {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علـوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} (القصص : 89).

وقد اقترنت لفظة التقوى في كثير من الآيات بمفردات الإيمان والإحسان والصلاح وغيرها الأمر الذي يفيد أنها تتكامل مع مدلولاتهم لتعبر معهم عن حقيقة التصديق بالله والإذعان لقيمه ومبادئه والاستسلام لأحكامه .يقول تعالى : {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون}(يونس : 63-62) . ويقول في آية أخرى : {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}(النحل . الآية 128)، وأن يكون الله مع التقي والمحسن فهي درجة من أسمى درجات التكريم الإلهي.

إن هذه الفئة من الناس التي وصفها الله عز وعلا بمختلف الصفات جزاؤهم المساق إلى جنة النعيم يقول سبحانه وتعالى : {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا}(الزمر : 73)، في منزلة لا عين رأت ولا أذن سمعت إلا ما أخبرنا به عز وجل في قوله عز شأنـه : {إن المتقين في جنات ونهر في مقعـد صـدق عنـد مليك مقتدر}(القمر : 54). وهذه المكانة العلوية التي يتبوؤها المتقون تدعونا للعمل على تقوى الله وتدعونا أن نتقيه في أنفسنا وأولادنا ومجتمعاتنا وأمتنا، أن نستجمعها في قلوبنا وأعماقنا حتى تكون لنا خلقا نتصف به,تدعونا أن نتمثل تقوى الله ساعة بعد ساعة بوصفها تلبية وجدانية وسلوكية لكتاب الله عسانا نتبوأ مقعدا من مقاعد الصدق في الدنيا والآخرة. ويحق لنا بعد هذا أن نتساءل :وهل الدنيا إلا ساعة نقضيها إما في تقوى الله والفوز برضاه ونعيمه أو في ضياع أنفسنا وتمييع تاريخ أمتنا المجيد؟؟.

1- لسان العرب .المجلد 15.ط 1.دار الفكر .1990 .ص 402 .

2- معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم ص 568 .

3-  في ظلال القرآن .سيد قطب المجلد الأول .دار الشروق .ط11 . 1985 . ص39 .

4-  انظر الآيات : 177-161-142-124 .

5- جند الله ثقافة وأخلاقا .سعيد حوى . ص 257 .ط

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>