لم يكد يمر عام على أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية التي أصابت الإخوان المسلمين في مصر مثل غيرهم من مختلف الحركات الإسلامية في العالم بعديد من الآثار السلبية.. حتى أصيبت الجماعة -المحظورة رسمياً في مصر منذ نحو خمسين عامًا- بضربة أخرى، مثّلها رحيل مرشدها العام الخامس مصطفى مشهور (2002-1921) رحمه الله في ظل ظروف دقيقة داخل الجماعة وأخرى أحاطت بها على المستويين المحلي والدولي.
فأما عن آثار أحداث سبتمبر؛ فبالرغم من أن الحرب الواسعة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية منذ أحداث سبتمبر ضد الغالبية الساحقة من الحركات الإسلامية في العالم تحت مسمى “القضاء على الإرهاب” لم تلحق بالإخوان إصابات مباشرة أو كبيرة؛ فقد تأثرت الحركة الإسلامية السياسية الأقدم في العالم كثيراً بتلك الحرب غير المسبوقة في التاريخ. فعلى الصعيد العالمي كان لمناخ التضييق العام ذي الوجوه الأمنية والسياسية والإعلامية المتعددة على كافة الحركات والأنشطة الإسلامية.. تأثيره السلبي على مختلف فروع الإخوان المسلمين في معظم دول العالم التي جنحت إلى الكمون التنظيمي، وتقلصت نشاطاتها العامة.
كما أنه على نفس الصعيد العالمي طالت الإجراءات الأمنية الأمريكية الغربية بعضًا من هياكل الجماعة وقياداتها بتهمة “دعم الأنشطة الإرهابية”، كما حدث في تجميد أموال بنك التقوى الوثيق الصلة بالجماعة. وفي نفس سياق ما بعد سبتمبر لا يمكن تجاهل تزايد الحملات الأمنية والإعلامية على بعض فروع الجماعة في عدد من البلدان، بغض النظر عن وضعها القانوني فيها، مثلما حدث في الأردن التي تتمتع فيها الجماعة بالشرعية القانونية أو في مصر التي لا يزال الحظر القانوني على وجودها قائمًا.
بين “الشرعية التاريخية” و”الشرعية الواقعية”
يبدو الوضع الداخلي للإخوان المسلمين في مصر اليوم كحصيلة منطقية للتطور التاريخي الذي عرفته الجماعة خلال الأعوام الثلاثين الماضية بعد إفراج الرئيس السادات عن قياداتها وأعضائها من السجون، والسماح لهم بالتحرك بصورة شبه علنية كجماعة منظمة. فتلك الأعوام الثلاثون من تاريخ الحركة يمكن تسميتها “مرحلة التأسيس الثاني” لها، بعد التأسيس الأول على يد الأستاذ حسن البنا عام 1928. وقد تم هذا “التأسيس الثاني” للجماعة بفضل مجهودات قيادات مرحلة تأسيسها الأولى، الذين خرج معظمهم حينئذ من السجون، والذين عاد بعضهم من المنافي الاختيارية الخليجية، بالإضافة إلى مجهودات عديد من الدعاة والقيادات الإسلامية المستقلة عن الجماعة، والذين انتشرت تسجيلات خطبهم وكتاباتهم بصورة واسعة بين طلاب الجامعات المصرية، الذين مثلوا الشريحة الرئيسية التي توجهت إليها مجهودات كل هؤلاء.
أسفرت تلك المجهودات المتكاملة، وفي ظل مناخ إسلامي عام تبنته وأشاعته الدولة الساداتية في سنواتها الأولى عن جذب أعداد ضخمة من هؤلاء الطلاب -وبخاصة في جامعات القاهرة والوجه البحري والإسكندرية- إلى صفوف الجماعة التي بدت لمعظمهم الكيانَ الوحيد القادر على تلبية معظم حاجاتهم: الحاجات الدينية والثقافية بما قدمته لهم من إطار إسلامي، وهوية واضحة طال بحثهم عنها في تلك الفترة المتخمة بالاضطراب والفوضى والحاجات الاجتماعية بما وفرته من خدمات تعليمية وطلابية وأطر مناسبة للتفاعل بين أبناء تلك الشريحة العمرية، والحاجات السياسية بما أتاحته من نشاطات جامعية نوعية ضمن مؤسسات التمثيل الطلابي، وأخرى أوسع تتقاطع مع هموم المجتمع العامة.
وقد زاد بريق الجماعة لتلك الشريحة الأنشط دائماً في التاريخ السياسي المصري المعاصر والأكثر احتجاجاً، بعدما بدأت في الصدام مع الدولة بعد قيام الرئيس السادات بزيارته المفاجئة للقدس في نوفمبر 1977؛ مما أتاح لها مزيداً من الانتشار بين صفوفها وجذب مزيد من أبنائها إليها.
السبعينيات.. التأسيس الثاني
وقد كانت فترة النصف الثاني من السبعينيات هي بداية “مرحلة التأسيس الثاني” للجماعة؛ لأنها أتاحت لها جذب هذه الأعداد الوفيرة من تلك الشريحة الاجتماعية الأكثر نشاطاً؛ لكي تجدد بهم صفوفها بعد أن تجمدت تقريباً -بسبب ظروف الصدام الواسع مع النظام الناصري- عند نفس الجيل الذي ساهم في تأسيسها الأول، والذي تراوحت أعمار من ينتمون إليه حينذاك بين الخمسين والستين.
كما كان الانضمام الواسع لأبناء تلك الشريحة إلى الجماعة بمثابة “التأسيس الثاني” والإنقاذ الحقيقي لها من التراجع أمام صعود الجماعات الإسلامية الأخرى ذات الطابع الديني الجهادي(…) في جذب قطاعات واسعة من نفس الشريحة، وخاصة في جامعات جنوب مصر.
ولا شك أن دخول الجماعة إلى الصدام مع الرئيس السادات بعد زيارته للقدس، وعقده معاهدة السلام مع الدولة العبرية، ثم استقباله شاه إيران بعد قيام الثورة الإسلامية هناك عام 1979، وهو ما تصاعد بفعل ضغوط الوافدين الجدد على صفوفها من طلاب الجامعات.. قد ساهم بدوره في إضفاء طابع احتجاجي عليها، ساعد هؤلاء على جذب أعداد أكبر من زملائهم إليها، وسحبهم بعيداً عن الجماعات الإسلامية الجهادية الأخرى التي كانت تعيب على الجماعة اعتدالها، ووسطية أطروحاتها، وتجنبها الصدام مع الدولة.
وباغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981 وبدء تفكك حالة التوتر والتصعيد التي خيمت على مصر خلال أعوام حكمه الأربعة الأخيرة، راح أبناء ذلك الجيل الجديد الذين ضمتهم الجماعة إليها أثناءها ينشطون في إعادة تأسيس الجماعة وبنائها، بعد أن تخرجوا في الجامعات، وصاروا أبناء مهن ذات وزن في المجتمع. وخلال السنوات التالية التي تقارب العشرين استطاع هذا الجيل أن يحقق للجماعة على المستوى السياسي والنقابي في مصر ما لم يتحقق لها من قبل طيلة تاريخها السابق.. فقد اكتسحت الجماعة ممثلة بهؤلاء انتخابات معظم النقابات المهنية المصرية ونوادي هيئات التدريس بمختلف الجامعات، فضلاً عن اتحاداتها الطلابية. كذلك فقد استطاعت الجماعة -رغم الحظر القانوني المستمر عليها- أن تدخل أعضاء منها إلى مجلس الشعب، معظمهم من أبناء ذلك الجيل في 3 انتخابات (أعوام 1984 و1987 و2000)، محققة في الأخيرتين منهما الموقع الثاني من حيث العدد بعد الحزب الوطني الحاكم.
ونجح أبناء الجيل الثاني أيضاً في بناء كثير من جسور الحوار والتنسيق بين الجماعة ومعظم قوى المعارضة السياسية في البلاد من اليسار واليمين عبر أقرانهم فيها، بعد أن كانت قد تقطعت بين أبناء الجيل الأكبر في الجماعة ونظرائهم في تلك القوى خلال “مرحلة التأسيس الأولى”. وقبل كل ذلك فقد نجح أبناء الجيل الثاني الذين تتراوح أعمارهم اليوم بين الخامسة والأربعين والخامسة والخمسين في أن يضموا جيلاً ثالثاً للجماعة يصغرهم ما بين عشرين وخمسة وعشرين عاماً من خلال نشاطاتهم النقابية والسياسية والإعلامية والطلابية، وبخاصة بعد أن زاد بريق الجماعة الإسلامي المعتدل في ظل تراجع وزن وجاذبية الجماعات (الجهادية) بدءاً من النصف الثاني للتسعينيات.
التناقض الجيلي
خلال ذلك الصعود المتتابع لدور وأهمية الجيل الثاني في “التأسيس الثاني” للجماعة واستمرارها.. راحت تتشكل له تدريجيًّا بداخل صفوفها وبين القوى الأخرى خارجها شرعية يمكن تسميتها “الشرعية الواقعية”، في الوقت الذي ظلت فيه قيادة الجماعة -ممثلة في مرشدها العام، ومكتب الإرشاد، ومجلس الشورى- خاضعة لأغلبية واضحة من أبناء الجيل الأول بما له من “شرعية تاريخية” استمدها من دوره خلال مرحلة “التأسيس الأول” لها وبداية المرحلة الثانية.
وعلى الرغم من أن الجيل الأول قد أفسح بعض المجالات والمواقع للجيل الثاني في بعض الهياكل القيادية للجماعة بدءاً من منتصف التسعينيات؛ فقد ظلت نسبته فيها أقل بكثير من دوره ونسبته الحقيقية في مختلف مستويات وصفوف الجماعة، وظلت قضية المواءمة بين “الشرعية التاريخية” و”الشرعية الواقعية” هي الأكثر إلحاحاً بداخلها برغم النفي العلني لمعظم الأطراف لحقيقة وجودها. ولم يكن ذلك التناقض بين شرعيتي الجيلين غريبًا عن السياق السياسي المصري الأوسع من الجماعة؛ حيث بدا متكرراً بصور مختلفة المضمون بداخل كل القوى السياسية المصرية التي هيمن عليها جميعاً جيل “الشرعية التاريخية” الأول، وبدت الجماعة بذلك جزءًا أصيلاً من الحياة السياسية المصرية، على الرغم من تفوقها الظاهر على نظرائها في معسكر المعارضة، سواء من حيث طريقة الأداء أو حجم الإنجاز.
إلا أن الفارق الأكثر وضوحاً بين التناقض الجيلي بداخل الجماعة وأمثاله في الجماعات السياسية الأخرى هو عدم ارتباطه بتناقض في الرؤى السياسية والاجتماعية؛ أي بين الرؤية “الجذرية” للجيل الأصغر مقابل الرؤية “المحافظة” للجيل الأكبر؛ فالحقيقة أن هاتين الرؤيتين توجدان على حد سواء بين أبناء كل من الجيلين على اختلافهما من حيث التكوين والخبرة والطبيعة، وهو الاختلاف الأكثر أهمية وتأثيراً في حالة الإخوان المسلمين؛ فعلى الرغم من اشتراك الجيلين في انتمائهما إلى الشرائح الوسطى من الطبقة الوسطى الحضرية والريفية المصرية.. فهما يختلفان إلى حد بعيد في الخبرة والعلاقة مع الدولة والقوى السياسية الأخرى. فالجيل الأول نشأ في مرحلة ما قبل الثورة وسط اختلافات ومصادمات الجماعة مع مختلف القوى الوطنية المصرية، بالرغم من اتفاق المقاصد على استقلال البلاد من الاحتلال البريطاني، وتذبذب مواقفها من النظام الملكي بين تأييد ظاهري وعداء صريح. ولم يكد معظم أبناء ذلك الجيل يخطون نحو الثلاثينيات من أعمارهم حتى كانت الجماعة تخوض أولى مصادماتها الدموية مع الدولة، والتي فقدت فيها مؤسسها ومرشدها الأول الأستاذ حسن البنا عام 1949. وما هي إلا أعوام أربعة أخرى حتى دخل أبناء نفس الجيل صدامهم الأوسع من نظام يوليو الثوري الجديد، والذي كلف معظمهم نحو 20 عاماً من السجن أو النفي الاختياري والإجباري أو الاستبعاد من الحياة العامة.
ولم يكن لتلك الخبرة المبكرة والطويلة سوى أن تطبع ذلك الجيل بخصائص واضحة في علاقته المضطربة بالقوى السياسة المعارضة الأخرى، وشكوكه في إخلاصها لتعاقداتها وتحالفاتها، فضلاً عن عدائه الشديد لبعضها، وتخوفاته وحذره المستمرين من الدولة التي زادت مواقفها تجاه الجماعة خلال السنوات العشر الأخيرة من عمقها واتساعها.
أما الجيل الثاني فقد بدأ خبرته مع الجماعة في النصف الثاني من السبعينيات بالجامعات المصرية؛ حيث تشارك أبناؤه مع عديد من نظرائهم في القوى السياسية الأخرى حركة سياسة طلابية واسعة معارضة لسياسات الرئيس السادات وبخاصة الخارجية منها، بالرغم من نشوب خلافات عديدة بينهم وصلت أحياناً إلى حد التصادم. وبالرغم من نشاط هذا الجيل الثاني المعارض للدولة فقد ظل بعيداً عن سجونها وقبضتها الثقيلة التي أصابت الجيل الأول من قبل؛ حيث لم يدخلها ويشعر بوطأتها سوى مع النصف الثاني للتسعينيات، ولفترة قصيرة قبل ذلك سبقت وتلت اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981. وبتلك البدايات والخبرة المختلفة تحرر الجيل الثاني أكثر من سابقه من اضطراب علاقاته وشكوكه في القوى المعارضة الأخرى، وبخاصة مع نظرائه فيها زملاء الحركة السياسية الجامعية في السبعينيات، وكذلك من تخوفاته وحذره من الدولة بالرغم من احتفاظه برؤيته النقدية لتكوينها ولمختلف سياساتها الداخلية والخارجية. وفي ظل تلك الخبرة المختلفة راح التطلع نحو حصول الجماعة على موقع شرعي في الساحة السياسية المصرية أسوة بالقوى الأخرى يجتاح ذلك الجيل الذي واصل نشر تطلعه في صفوف الجماعة ومستوياتها، بالرغم من حذر الجيل الأول من الفكرة وتخوفاته “الأمنية” تجاهها.
ضياء رشوان
عن إسلام أونلاين بتصرف
فــــي الــعــدد الـــقــــادم :
الـــدولــــــة والإخــــــــوان :
من التسامح إلى الإجهاض