بعد جارودي والفاتيكان ولوموند : تحريف القرآن الهدف النهائي وراء الحملة الصهيونية لاتهام العرب والمسلمين بمعاداة السامية 2


إذا كان المشرع الفرنسي قد اعتبر حق النقد الوارد في إعلان  الإنسان والمواطن الصادر في26 اغسطس 1789 مبدأ جوهريا وجزءا من الدستور الفرنسي الذي ينص في المادة 11 منه على أن حرية إيصال الأفكار والآراء هي أغلى حقوق الإنسان لكل مواطن، وأن من حقه أن يتكلم ويكتب ويطبع بحرية ولا يصبح محلا للمساءلة إلا عند إساءة استعمال هذه الحرية في الحالات المحددة في القانون، فمما لا شك فيه أن الحوادث التاريخية ـ التي يستغلها الصهاينة كسيف مسلط على رقاب الآخرين ـ تعد من الأمور المباح تناولها، ومن ثم فإن كشفها أو نشرها لا يعتبر عملا مجرما، وهو ما ذهبت إليه محكمة استئناف بروكسل حين أكدت أن من حق المؤرخ أن يكون حرا في مناقشة الوقائع التي يتصور ثبوتها، بشرط أن يكون قد رجع إلي مظانها المعروفة وحصل علي ما استقاه منها بأمانة، بل إن محكمة استئناف باريس نفسها رفضت في قضية أخرى دعوي تعويض مقامة من حفيدة كاتبة فرنسية شهيرة، بسبب نشر أحد الصحفيين لأسرار هذه الكاتبة الخاصة وأسماء عشاقها، مؤكدة أن الصحفي لم يتجاوز حدود النقد الادبي والتاريخي وأن حياة تلك الكاتبة كانت موضوع بحوث عديدة انتفع بها الكاتب.

وحتى لو سلمنا جدلا بأن تناول الوقائع التاريخية يعد عملا مجرما في القانون الفرنسي، فمن المنطقي والطبيعي أن يشمل هذا التجريم شتى الوقائع التاريخية المتعلقة بأصحاب مختلف الطوائف والديانات بصفة عامة، لا أن يقتصر هذا التجريم على أتباع ديانة بعينها دون سائر الديانات الأخرى.. بيد أن المتأمل لتشريعات القانون الفرنسي يستطيع أن يلحظ بسهولة عنصرية هذه التشريعات حين يرى أن معجم روبير الفرنسي الشهير يقصر مصطلح معاداة السامية على معاداة اليهود فقط، رغم أن مفهوم السامية أوسع وأرحب من ذلك بكثير.

والعجيب في الأمر أن معجم روبير نفسه يعترف بأن كلمة ” سامي ” تطلق على مختلف الشعوب التي تنتمي إلى مجموعة عرقية أصلها من غرب آسيا وتتكلم اللغات السامية، ويضرب أول مثال لهؤلاء الساميين بالعرب ثم باليهود، غير أنه لا يلبث أن يناقض نفسه حين يتحدث عن مادة ” معاداة السامية ” فيقصر هذا العداء على العنصرية الموجهة ضد اليهود فقط دون أن تشمل العرب وكل الشعوب السامية بصفة عامة، رغم أن التسمية مشتقة من اسم سام بن نوح عليه السلام، الذي ينتمي إليه العرب واليهود معا.

وحتى تتضح الأمور ـ ولو بشكل نسبي ـ فإن اللغوي المتخصص في اللغات السامية حين يعود إلى قاموس لسان العرب لينقب عن كلمة ” السامية ” لن يجد تحت مادة ” سما ” إلا كل ما يتعلق بالسمو والارتفاع والتسامي والتسمية، ولن يجد لسام بن نوح أثرا قط.. وهو ما يعنيأن هذه الكلمة لم تدخل العربية إلا حديثا، وذلك من خلال ترجمة اللغات اللاتينية والجرمانية.. أو بعبارة أدق فإن مصطلح معاداة السامية ولد ونبت في أرض غير عربية وغير سامية بسبب أحداث اضطهاد اليهود في أوروبا وممارسة الضغوط عليهم خلال الحربين العالميتين وما بعدهما.

وربما تجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن هذا المصطلح قد وضع خصيصا لمجابهة المد المتنامي لحركة مراجعة التاريخ المنتشرة منذ فترة في أوروبا، وهي حركة تركز علي إعادة البحث والتنقيب في تفاصيل المرحلة النازية، والتدقيق في تفاصيل الوثائق المتعلقة بمذابح اليهود في أوروبا وفي ألمانيا علي وجه الخصوص، ودراسة وبحث التناقضات الواردة في هذه الوثائق والروايات، وبخاصة فيما يتعلق بالأرقام والأماكن، وذلك بهدف رفع وطأة المعاناة عن الشعوب الأوروبية ومثقفيها ـ والألمان خاصة ـ من الضغوط الصهيونية والمبالغات الواضحة لهم تجاه كل من تسول له نفسه مجرد الحديث عن المذابح أو محاولة البحث فيها، وكأنها حقائق سماوية مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

ضحايا القانون

كان من الطبيعي والحال هذه أن يتعرض مثقفو الغرب ـ وفرنسا على وجه الخصوص ـ لمقصلة قانون جيسو وتعديلات قانون الصحافة الفرنسي، مثلما حدث مع المفكر الفرنسي روجيه جارودي الذي حوكم بسبب تعرضه في كتابه ” الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ” إلى واقعة تاريخية ثابتة، وتشكيكه فيما انتهت إليه محكمة نورمبرج في عدد ضحايا النازية من اليهود، حيث أدين أمام القضاء الفرنسي بهذه التهمة العجيبة، ومازال الطعن مستمرا أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بعد إدانة جارودي أمام مختلف درجات التقاضي الفرنسية.

والمثير أن الوقائع الواردة في كتاب جارودي تكاد تتطابق تماما مع أفكار وكتابات المؤرخ البريطاني ديفيد أيرفينج، الذي شكك في كتابه ” نورمبرج : المعركة الأخيرة ” في أن يكون ضحايا الهولوكوست ( المحرقة ) اليهودية علي يد النازي ستة ملايين شخص، مستندا إلى أن أوروبا في أثناء الحرب العالمية الأخيرة لم يكن بها أصلا ستة ملايين يهودي، وإلى أن معسكر أوشفيتز الشهير في بولندا ـ والذي يعتبر أكبر معسكرات الاعتقال النازية ـ لم يكن عدد ضحاياه يتعدي مائة ألف شخص علي أكثر تقدير، لأن حجم الأفران التي به لايمكن أن تتسع لأكثر من هذا العدد إذا ظلت تعمل ليل نهار طوال سنوات الحرب الأربع.

وكشف أيرفينج عن أنه اطلع علي القوائم الرسمية لأسماء الأسرى الذين ماتوا بالمعسكر فلم يجد بها أكثر من70 ألف اسم، وأن هذا العدد يضم أيضا من ماتوا لأسباب أخرى مثل المرض أو لأسباب طبيعية غير الحرق داخل أفران الغاز.. مشيرا إلى أن هذه القوائم الخاصة كان يعدها الألمان لأنفسهم ثم حصل عليها السوفييت عند دخولهم بولندا بعد هزيمة هتلر..

ورغم أن كتاب أيرفينج قد نشره علي نفقته الخاصة بعد أن رفضت دور النشر البريطانية إصداره تحت ضغوط اللوبي الصهيوني، فإنه لم يجرؤ أحد على المطالبة بمحاكمته، بينما ثارت ثائرة اليهود حين تعرض جارودي لنفس الوقائع ـ تقريبا ـ وقدم إلى القضاء الفرنسي بتهمة معاداة السامية، بل وأدين بسبب تلك التهمة أمام شتى درجات التقاضي الفرنسية.

ولأن تهمة معاداة السامية أصبحت ـ كما أسلفنا ـ من الأكليشهات الجاهزة لحماية اليهود والصهاينة في وجه كل من تسول له نفسه كشف حقائق جرائمهم وأضاليلهم، فلم يكن غريبا أن تواجه صحيفة لوموند التهمة ذاتها منذ 20 عاما ـ وتحديدا في عام1982 ـ حين نشرت بيانا مدفوع الأجر يحمل عنوان : “بعد مجازر لبنان..

معنى العدوان الإسرائيلي ” وقعه ثلاثة مفكرين هم: الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي، والأب ميشيل لولون صاحب أعلى صوت في الدعوة لحوار الأديان، والقس إيتان ماتيو أحد أبرز وجوه الطائفة الإنجيلية الفرنسية.. وقامت الدنيا في فرنسا ولم تقعد، إذ كيف يسوغ أن تكون الصحيفة التي تدأب علي مناهضة العنصرية متهمة بالتحريض العنصري؟

ووقف جاك فوفيه مدير تحرير الصحيفة الفرنسية ـ الأكثر انتشارا في ذلك الوقت ـ أمام القضاء الفرنسي يستهجن الاتهام ويؤكد أن ” لوموند ” منبر ديمقراطي ينشر مختلف الآراء، وانعقدت بالفعل جلسة الاستماع الى المدعى عليهم وأصحاب الدعوي والشهود في17 يونيو1982 واستمرت تسع ساعات كاملة، أنكر خلالها المتهمون ـ وأولهم روجيه جارودي ـ تهمة عدائه للسامية، وأوضح جارودي أن رئيس المجلس اليهودي ناحوم جولدمان كان قد كلفه بمهمة محددة لدى الرئيس جمال عبد الناصر تتعلق بلقائه بعدد من زعامات اليهود، وأنه لو كان معاديا للسامية لما كان جولدمان قد كلفه بهذه المهمة.

أما المتهم الثاني القس إيتان ماتيو فقد دافع عن نفسه بأنه ناضل ضد العنصرية بكل أشكالها منذ50 عاما وأسس جمعية صداقة يهودية مسيحية، مؤكدا أنه تركها عام1967 عندما قال له حاخام يهودي : إن اللاسامية تخدم قضية الصهيونية ! بينما استند الأب ميشيل لولون في دفاعه علي مناصرته الدائمة للضعفاء في العالم.. غير أن كل هذه الحقائق والأسانيد لم تشفع لأصحابها في وصمهم آنذاك بمعاداة السامية.

وتمتد قائمة الضحايا لتشمل روبير فريسون الباحث الفرنسي المتخصص في النصوص القديمة، والذي يعاني منذ عام 1979 حتى الآن سلسلة من القلاقل بسبب اتهامه بالعداء للسامية، بدأت بخسارته لمنصبه الجامعي كأستاذ للأدب الفرنسي ونقد النصوص في جامعة ليون، التي ادعت عدم قدرتها علي حمايته..

وفي الوقت الذي تشن فيه وسائل الإعلام حملة تشويهات ضده وترفض نشر تصويباته، فإن المحاكم الفرنسية حكمت عليه بغرامات باهظة أدت الي إفلاسه وانهيار عائلته ماديا وجعلته يعيش في أجواء من الخوف والهلع المتواصل، بل وانهال عليه ثلاثة أشخاص مجهولون بالضرب والركل في صيف عام 1989 حين كان يمشي في إحدي الحدائق العامة بصحبة كلبه بمدينة فيشي، ولم يتركوه إلا وهو بين الحياة والموت.

أما زميله فرانسو دوبار أستاذ التاريخ فقد كان أسوأ حظا منه بسبب أفكاره التي ينكر فيها أن يكون عدد ضحايا اليهود ستة ملايين، باعتبار أن يهود العالم لم يكن يزيد عددهم في ذلك العصر علي مليون يهودي على أقصى تقدير، فكان جزاؤه أن يموت في انفجار داخل سيارته عام 1978.

ولم تقتصر تهمة معاداة السامية على الوقائع التاريخية والتشكيك في أعداد ضحايا الهولوكست فقط، بل امتدت كذلك لتشمل مجال الأدب حين كتب الروائي الألماني مارتين فاسلر رواية بعنوان ” موت ناقد ” بطلها يهودي يدعى مارسيل، ولأن البطل يهودي والروائي رسم شخصيته بصورة ساخرة فقد اتهم فاسلر بالعداء للسامية وكراهية اليهود، وخرجت الصحافة الألمانية بعناوين أصابته بالدوارمثل النازي والعنصري وكاره اليهود، ورغم نفيه التهمة فإنه لاتزال تلاحقه أصوات اللوبي الصهيوني حتي الآن.

ولم يسلم الفاتيكان ـ وبخاصة الكنيسة الكاثوليكية ـ من التهمة ذاتها، حيث اتهم الفاتيكان بالإسهام في المحرقة وغض البصر عن جرائم النازية، وبأنه وفر المناخ للعداء الأوروبي لليهود ولم يبذل جهدا كافيا لحمايتهم رغم معرفته بما كان يحدث، ومنذ ذلك الوقت واللعنة تطارد المسيحية كديانة والكاثوليكية كمذهب.

ومنذ عدة أسابيع ادعت رابطة مناهضة تشويه السمعة ـ وهي جماعة يهودية أمريكية ـ أنه بعد11 سبتمبر تزايد العداء للسامية في أوساط الأمريكيين خاصة المنحدرين من أصل إفريقي، ولاحقت هذه التهمة هيلاري كلينتون عندما لم ترد علي اتهام سهى عرفات للجنود الإسرائيليين بتسميم الآبار، وكانت قبلها قد قالت إن الفلسطينيين يستحقون دولة.

تحريف القرآن

وإذا كان التفسير الرائج والجاهز دوما لأسباب اتهام الصهاينة لمثقفي الغرب بمعاداة السامية هو محاولة إرهاب هؤلاء المثقفين وابتزاز أوربا، فقد بادر الكثيرون في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي إلى وصف الحملة على نقيب الصحفيين المصريين والعرب بأنها أيضا محاولة ممجوجة لإرهاب المثقفين العرب وإخراس الصوت العربي، ومنع العرب من كشف الأكاذيب الصهيونية.

ولم يلبث فقهاء القانون وقادة الفكر أن أضافوا سببا آخر إلى هذه الأسباب يتمثل في محاولة لفت الأنظار عما يدور في فلسطين، والتقليل من وقع الأثر الذي أحدثته المذابح الصهيونية ضد الأبرياء والعزل هناك في نفوس الشعوب الأوربية، والذي أدى إلى تعاطف أغلب هذه الشعوب مع القضية الفلسطينية بعدما تواترت أنباء هذه المذابح والإبادة بالصوت والصورة عبر الفضائيات العربية والأوربية على حد سواء.

ورغم تسليمنا التام بتلك الأسباب التي أبداها مفكرونا ومثقفونا لتفسير تلك الحملة الصهيونية، فإن الملاحظ أن الطامة الكبرى التي لم يلتفت إليها أحد عند البحث في أسباب هذه الحملة المخطط لها بإحكام هي أنها تهدف إلى أبعد من ذلك كثيرا، وأن غايتها الكبرى هي النيل من أسمى وأقدس الدساتير الإسلامية : القرآن الكريم، فالمخطط يستهدف أول ما يستهدف إقرار القضاء الفرنسي بجريمة معاداة السامية في حق أي عربي ـ حتى ولو لم يكن نقيب الصحفيين المصريين والعرب ـ ثم تتلقف آلة الإعلام الصهيونية ـ التي تحكم الخناق على شتى وسائل الإعلام العالمي ـ هذه الإدانة لتمهد الأجواء إلى أن العرب جميعا معادون للسامية، وعندما تنجح في إتمام تلك المهمة على الوجه الأكمل تبدأ المرحلة الثالثة من المخطط، وهي المرحلة التي سيسعى فيها اللوبي الصهيوني والجمعيات الصهيونية المنتشرة في أوربا إلى ممارسة الضغوط المكثفة على الغرب بزعم حمايتهم من العرب أعداء السامية الذين يحيطونهم من كل جانب، والذين يستهدفون إبادتهم وإلقاءهم في مياه البحر.

ورويدا رويدا يبدأ الصهاينة في الكشف عن مخططهم القبيح، من خلال مطالبة العرب ـ بضغط أمريكي أوربي ـ بإبداء حسن النوايا وحذف كل عبارة أو حرف يسئ إلى اليهود وإسرائيل في الكتب والمناهج الدراسية العربية ـ وأولها التربية الدينية بالطبع ـ بزعم أن هذه المناهج مليئة بعشرات العبارات التي تعادي السامية وتحض على الكراهية والتمييز.

أما آخر مراحل المخطط ـ الذي لا يهم الصهاينة متى تكتمل أبعاده تماما : بعد شهر أو سنة أو حتى قرن كامل ـ فيمثله تجرؤ الصهاينة التام على المطالبة بحذف كل الآيات القرآنية التي تتعلق باليهود من قريب أو بعيد، إذا ما نجحت الضغوط الأمريكية والغربية في استثمار حالة الضعف والتشرذم العربية الراهنة، ومضت مراحل المخطط السابقة على الوجه المرسوم لها.

هذا السيناريو المتكامل للمخطط، نجحت بالفعل بعض مراحله التي دخلت حيز التنفيذ، حيث اشترطت إسرائيل في اتفاقيات السلام التي تم توقيعها مع بعض الدول العربية أن تقوم هذه الدول بتنقية مناهجها الدراسية من كل ما يمس اليهود وإسرائيل، ونجحت في ذلك بالفعل.

في العدد المقبل إن شاء الله : عنصرية  اليهود

عمرو سلمان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>