فكر إسلامي : اقتراح لهيكل شوري تشريعي في الدولة : “نموذج لمنهج تفكير إسلامي” (2/1)


نذير بين يدي المقال

في العشرين سنة الأخيرة هوت مجموعة من النظم في عالمنا العربي والإسلامي من درك الطغيان والبغي والفساد إلى درك الفوضى والمجهول والتحديات الداخلية والخارجية التي تنوء بحملها الجبال.. ظلت الأمور تتفاقم في ظل قيادة مستبدة طاغية ومن تحتها ظل السوس ينخر عظام الأمة بينما تزخرف آلة الإعلام الجبارة صورة وردية للحياة، فيبدو الفساد صلاحاً ويبدو الطغيان عدلاً ويبدو الاستبداد شورى ويبدو الجوع والعطش شبعاً ورياً. حتى إذا اطمأن أصحاب النظام الدولي إلى ما حققه السوس في جسد الأمة رفعوا أيديهم التي تمسك العروش أن تقع لتنهار وتتبدد.. تركوها تنهار في ثوان من عمر الزمن، ولتسجل في علوم الحضارة ظاهرة جديدة لم يكن لنا بها من عهد وهي ظاهرة “الانهيار الكارثي” أو “Catastrophic collape” التي تصف كيف يتعاون المجرمون في الداخل والخارج على إظهار نظام بالقوة والبأس والعدل والرخاء والإستقرار بينما باطنه يمتلئ بالسوس ينخر عظامه، ويظلون ممسكين بعرشه أن ينهار على قواعده لفترة تبدو لهم كافية أن يقع المجتمع ولا يقوم بعدها أبداً وحينئذ يرفعون أيديهم عن حمايته ويتركونه نهباً للضياع وعدم الاستقرار.. أو هكذا على الأقل يظنون.

ويصف القرآن هذه الظاهرة في  آية محكمة: {وكم من قرية أهلكناها وهي ظالمة… فهي خاوية على عروشا… وبئر معطلة وقصر مشيد} أي أن القرية وقد خوت على عروشها فقدت قدرتها الإنتاجية بفعل فاعل ” بئر معطلة” وما بقي لها إلا زخرفة ظاهرة “قصر مشيد”.

في الجزائر أسلمنا نظام بومدين المستبد المنغلق إلى فوضى لا يعرف إلا الله متى تنتهي..

في الصومال أسلمنا نظام سياد بري المستبد الفاسد إلى ما آلت إليه الأمور من ظهور القبلية القاتلة..

فيأفغانستان أسلمنا النظام الملكي الفاسد إلى نظام شيوعي أفسد ليسلمنا في النهاية لفوضى ليس لها مثيل ثم إلى ما هو عليه الآن!!!

وفي كل هذه الأحوال تبدو ظاهرة “الإنهيار الكارثي” خير تفسير لما يحدث. وأهم خاصية تميزت بها كل الدول التي أدركها طوفان الإنهيار الكارثي هي الفساد المركب. وكأن القرآن يشير إلى هذا الفساد المركب بقوله : {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون}

> هل يكون هؤلاء المفسدون هم :

- رهط الفساد الإجتماعي

- رهط الفساد التعليمي

- رهط الفاسد التنموي

- رهط الفساد السياسي

- رهط الفساد التشريعي

- رهط الفساد القضائي

- رهط الفساد الأمني

- رهط الفساد الإعلامي

- رهط الفساد البيئي

ولن يتمكن الفساد من أمة إلا بذراع الاستبداد وغياب النظم الشورية في الأمة أو تزييفها لتصبح قصرا مشيداً من الخارج ومن داخلها خاوية على عروشها. كل الآثام ترتكب في ظل الاستبداد. وفي ظل نظام عالمي مستبد، لا تصدقوا أن هناك مستبد وطني… كل المستبدين خونة. ذلك أنهم بمجرد أن اختاروا طريق الاستبداد يكونون قد اختاروا طريق التبعية لأنفسهم ولأمتهم. فالمستبد في دولة عظمى عنده فسحة للوطنية أما المستبد في دولة مقهورة ضعيفة ليست عنده أي فسحة وطنية للاستبداد.. بمجرد اختياره للاستبداد فقد اختار التبعية والخيانة.

لذلك ظلت قضية الشورى تشغلني طول حياتي. وأذكر أنني التقيت بمولانا أبو الأعلى المودودي عام 1967 وانفردت به ثلاثة أيام، وقلت له بيني وبينك ثلاث قضايا.. إما أن تقنعني وإما أن أقنعك. قال هاتها : قلت : رأيك في قضية المرأة ورأيك في الناسخ والمنسوخ ورأيك في الشورى. وكان الأستاذ المودودي يرى في أول حياته العلمية أن الشورى غير ملزمة. قال رحمه الله إن قضية الشورى قد تغيرت بالنسبة له وأنه الآن يراها شديدة الوجوب وأنه غير رأيه في كتاباته اللاحقة وعلى كل حال ليست الشورى كقيمة إسلامية هي المشكلة وإنما ظل السؤال : هل يمكن أن نبدع نظاماً للشورى يرسخ وجودها في الحياة كلها بدءاً من الفرد وانتهاءاً بالحكومة؟ وبالطبع سيكون لكل مجتمع أن يبدع حسب ظروفه الحضارية وليس هناك نظام واحد لها. المهم أن الشورى وهي في الإسلام من قيمه الأخلاقية تظل كالصلاة والزكاة في قلب كل مسلم يؤمن بيوم الحساب.

ولعلي في ختام هذا النذير أقول إن كثيراً من دولنا العربية والإسلامية ليست بمفازة من هذا الانهيار الكارثي، وأنه إذا لم تدركنا عناية الله فتتوب نظم كثيرة عن استبدادها وفسادها فإن الكارثة آتية لا ريب فيها والمصلحون الذين يوجهون الأمة إلى قضايا إصلاحية هامشية ينبغي أن يركزوا في هذه الآونة على قضية أساسية وهي الإصلاح الشوري.. فكل كسب في هذا الإتجاه هو كسب في كل الاتجاهات. وكل مؤمن بالله في أوطاننا ينبغي أن يضع في السويداء من قلبه قضية الإصلاح الشوري في رأس القائمة.. فإن الإستبداد يورث الكفر… ليس فقط لمن استبد ولكن أيضاً لمن استُبِدّ بهم.

وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت..

مقدمة :

يرتبط الهيكل التنظيمي الشوري بطبيعة الحكومة وطبيعة النظام التنموي في الأمة من  حيث : هل النظام التنموي نظام مركزي بحيث تقوم الدولة على كل شيء ابتداء من التعليم إلى الصحة إلى الإسكان وانتهاء بالقضاء والبوليس والجيش؟

أم أنه نظام لا مركزي يترك الأمة تتفاعل مع بيئتها وتصمم منظومتها التنموية، ويقوم النظام فقط بقضية الأمن العام داخلياً وخارجياً؟

أم أنه نظام بين الاثنين؟ على كل حال ينبغي أن يكون النظام مركزياً لدرجة لا تسمح بالانهيار الأمني الداخلي والخارجي ولكن لا تكون مركزيته لدرجة تخنق الحياة المادية والروحية للأمة. وفي تاريخنا الإسلامي كان نظام الحكم أقرب إلى اللامركزية حيث تقوم الدولة فقط بالحفاظ على الأمن الخارجي والداخلي بينما تميز النظام التنموي باللامركزية.

والظروف الدولية تلقي بظلالها في تحديد طبيعة الحكومات المناسبة لعصرها ودرجة مركزيتها.

وفي ظل ظروفنا الراهنة نطرح تصوراً للعلاقات الهيكلية التي تعظم دور الشورى في الأمة، نطرح ذلك ونحن مدركون أن هذه وجهة نظر تحتاج إلى نظر مستمر للتصحيح والملاءمة مع الظروف المتغيرة سواء في الداخل أو في الخارج.

الهيكل المقترح

لقد لخصنا الهيكل المقترح في شكل هندسي.. متأثرين بطرائق أهل الهندسة في الشرح والتوضيح، وشرحنا الوشائج بين الجهات المختلفة بخطوط آتية وذاهبة لتمثل التفاعل بينها.

وليلحظ القارئ أن المقياس الذي ا تخذناه لقياس أداء الأمة حكومة وشعبا يتبلور في تعظيم الحفاظ على السكينة الاجتماعية والحفاظ على القيم الخالدة التي جاءتنا وحيا. والسكينة الإجتماعية لن تتحقق في الأمة حكومة وشعبا إلا من خلال العدل والإحسان في الأمر كله… ومن خلف ذلك كله نظام شوري يطمئن إليه الناس ويضمن لهم حق المشاركة الفعالة في كل ما يتعلق بدنياهم.

والهيكل المقترح يتألف من سبع خطوات.. هي كالآتي :

1- مؤسسات التربية الثقافية المهنية تفرز طبقات من المهنيين والمجتهدين وهي مؤسسات رسمية وتطوعية وتحتاج إلى تصميم وتخطيط ومتابعة.

2- طبقات المجتهدين طبقات حرة من العلماء المتخصصين يطرحون اجتهادات في تخصصاتهم المختلفة مبرهنين أنها اجتهادات تنبع من عالم القيم الاسلامية.. هذه القيم التي تصدر عن تصور راشد للقرآن والسنة.

3- هؤلاء المجتهدون مجتمعون في مؤسساتهم المهنية سواء كانت نقابات أو مراكز بحوث أو جماعات إصلاحية أو أحزاب سياسية حيث تتم الغربلة الأساسية لهذه الاجتهادات وتتبناها جهاتهم الشعبية حيث تضغط هذه الجهات الشعبية على المجالس الشورية لتبني هذه الاجتهادات.

4- تلزم المجالس الشورية الحكومة بأحد هذه الاجتهادات المطروحة.

5- توضح الحكومة للمجالس الشورية المحددات والضوابط الدولية التي ربما فاتت المجتهدين في النقابات أو على أعضاء المجالس الشورية الذين اختاروا اجتهاداً من هذه الاجتهادات.. توضح هذه المحددات حتى يعيد المجتهدون اجتهادهم، فكل واقع جديد له اجتهاد مغاير.

6- كذلك تطلب ا لحكومة من المجالس الشورية إعادة النظر في بعض القوانين التي ربما أثبتت التجربة عدم توفيقها أو تطلب منها النظر في أمور مستحدثة وتوجهات حياتية جديدة.

7- تطرح المجالس الشورية الأمر على النقابات والهيئات ليجتهد مجتهدوها في حرية تامة في ظل ما استقر في أفئدتهم من قيم وفي ظل تجاربهم الفقهية و المهنية.

ملحوظة 1 : أمران هامان :

الأول : أن المجالس الشورية لا تجتهد وإنما تختار من اجتهادات قائمة قدمتها لها النقابات والهيئات الشعبية المختلفة لتحقق ما استطاعت التناغم بين المحددات والضوابط التي تجد الحكومة نفسها فيداخلها وهذا هو رأي فقيهنا العظيم الدكتور توفيق الشاوي.

الثاني : أن الحكومة ملتزمة التزاما كليا بالاجتهاد الذي اختارته المجالس الشورية فإذا رأت أنه يصعب عليها الالتزام باجتهاد ما نتيجة قصور هذا الاجتهاد أعادت الأمر للمجالس الشورية، والمجالس الشورية تعيده بدورها إلى الأمة ممثلة في نقاباتها وهيئاتها المدنية.

ملحوظة 2 : هناك فرق بين الشورى والإستشارة.. هكذا نبهنا الدكتور الشاوي في كتابه القيم “فقه الشورى والإستشارة”. ومن حق الحكومة أن تستشير من تشاء ومن حقها أيضاً أن تلتزم برأي من تستشير أو لا تلتزم ولكن من واجبها أن تلتزم بالشورى. فالشورى ملزمة والاستشارة اختيارية الإلتزام.

ملحوظة 3 : وليعمل هذا الهيكل التنظيمي بكفاءة عالية لابد أن نحسن إعداد مكوناته واحداً واحداً وإلا فستصبح المنظومة خاوية على عروشها.. فبئر معطلة وقصر مشيد.

المكون الأول : التربية الثقافية والمهنية، ويقوم عليها النظام التعليمي والنظام الإعلامي وكذلك الجماعات الثقافية والتربوية وكذلك الأحزاب السياسية والجماعات الإصلاحية. وعلى الدولة أن تتأكد من صلاحية المناهج التربوية والثقافية في كل هذه الأنشطة في ظل ثوابت الأمة.

المكون الثاني : إعلاء شأن البحوث في الدولة حتى تتكون لدينا أطر من المجتهدين خاصة في المجالات التي تتحدث عن التفاعل بين المهن المختلفة والقيم السائدة والقيم المرجوة وأحوال المجتمع العامة.

المكون الثالث : النقابات والتجمعات السياسية والاصلاحية ويجب أن تكون في المستوى الحضاري اللائق، فالدولة ليست مجموعة من أفراد وإنما هي مجموعة من التكتلات الوظيفية المتكاملة. والحكومة التي تستغل أجهزة الدولة لتضرب النقابات والتجمعات السياسية والإصلاحية لتنفرد هي بالسلطة هي حكومة خائنة لأماناتها، لأنها بذلك تقطع طريق الشورى الحقيقية وتزيف إرادة الأمة، وسيؤديفعلها هذا -إذا لم يستدرك- إلى خراب أكيد في المدى القريب والبعيد.

المكون الرابع : المجالس الشورية : ما هي الطريقة المثلى لاختيار رجال قادرين على إسداء المشورة للدولة، وقادرين على أن يختاروا من الاجتهادات القائمة الاجتهاد المناسب، وقادرين على أن يحملوا الحكومة عليه ويحاسبوها إن أخفقت؟!.

الطريقة المصرية -مثلا- هذه الأيام طريقة فاشلة وتحتاج إلى أفكار جديدة، فلماذا مثلا لا تمثل النقابات ونوادي الهيئات المختلفة بنسب معقولة نضمن بها وجوداً مهنياً معقولاً. ويأتي هؤلاء من نقاباتهم ونواديهم بطريقة شورية وليس تعييناً بل يمكن أن نضم أيضاً لهؤلاء بعض الطوائف التي لا يمكن أن تأتي بالاقتراع العام، ويأتون بطريقة شورية من طوائفهم بدلاً من التعيين.

د. سيد دسوقي حسن (ü)

———–

(ü) أستاذ ورئيس قسم هندسة الطيران كلية الهندسة جامعة القاهرة ومن كبار رجال مدرسة مالك بن نبي.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>