شهر الصّيام منحة ربّانية للأمة الإسلامية


لاغرو أن المتأمل في فرائض الإسلام من صلاة وزكاة وحج وصيام..، والمدقق للنظر في باقي التكاليف والأحكام، ليلحظ بعين العادل المنصف للحق مدى رفق الله تعالى بأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته بها وهو الرؤوف الرحيم، قال تعالى : {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج}(الحج : 76)، وقال تعالى أيضا : {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}(المائدة : 7).

وإذا كان من المعلوم أن حكمة الله تعالى قد اقتضت تفضيل بعض الناس على بعض ورفع بعضهم على بعض كما صرح بذلك في كتابه الكريم حين قال : {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق}(النحل : 71) وقوله تعالى : {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات}(النحل : 71)، بل فضل بعض الأنبياء على بعض وهم من المصطفين الأخيار على جملة البشر بنص قوله تعالى : {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}(الزخرف : 31)، وكذلك بالنسبة للأمكنة والأزمنة. إذا كان كذلك فإنه سبحانه قد اختص الصيام بأفضلية وميزات، عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه من النار سبعين خريفا<(حديث أخرجه البخاري في الجهاد والسير، ومسلم في الصيام). وجعل شهر رمضان على الخصوص بنفحاته وفيوضاته منحة إلهية منه جل وعلا، لهذه الأمة أهل ملة الإسلام، وهي خير أمة أخرجت للناس لائتمارها بأداء الشهادة على باقي الأنام.

ولعل من مظاهر هذه المنحة الربانية نزول القرءان في شهر رمضان المعظم بدليل قوله تعالى : {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة : 184). فما كان لله تعالى -وهو أعلم بمراده- أن ينزل هذا القرءان الذي عليه قوام الحياة الأولى والآخرة في هذا الشهر الكريم بالذات لولا سمو مكانة شهر رمضان وقدره وجلاله وفضله عنده سبحانه، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : >كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به<(حديث متفق عليه).

فإسناد الصيام إلى الله تعالى بنفسه دون سائر الأعمال بعد تكليف المسلمين بأداء هذه الفريضة أداء لواجب العبادة والطاعة فيه لدليل على ما يحصل من حسن النية وصدق العزم، ويتحقق من فيض الخير والثواب في أداء هذه الشعيرة، فضلا عما ينجلي من أثرها على قلب المومن وسلوكه.

ومما يؤكد أيضا على كون هذا الشهر المبارك منحة ربانية لنا ما ورد في البيان النبوي فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حضر رمضان : أيها الناس.. قد جاءكم شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم(1)

فليس من اليسير -إذن- أو لمجرد حلول شهر رمضان أن يقع فتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وسلسلة الشياطين، لولا لطف الله ورحمته وفضله، نظرا لما يصدر عنا من الذنوب والمعاصي والآثام.

بل زيادة على هذا القدر فقد جعل الله بمشيئته ومنته صيام رمضان وقيامه إيمانا واحتسابا موجبا للرحمة ومغفرة للذنوب، ونعم الجزاء في الدنيا والآخرة.

فقد روى الإمام النسائي وأحمد عن النضر بن شيبان قال : قلت لأبي سلمة بن عبد الرحمان حدثني بشيء سمعته من أبيك وسمعه أبوك من النبي صلى الله عليه وسلم عن شهر رمضان، فقال ؛ نعم حدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه(2) فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا(3) خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه<(رواه الإمام أحمد في مسنده).

ومما يزيدنا يقينا وإيمانا بفضل الله علينا في هذا الشهر وتكرمه علينا بجلائل الأعمال ووافر الجزاء ما جاء من جوامع الكلم على لسان مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه الصريح البين الواضح حين قال عليه الصلاة والسلام : >أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبي قبلي :

< أما واحدة : فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ينظر الله عز وجل إليهم، ومن نظر الله تعالى إليه لم يعذبه أبدا.

< وأما الثانية : فإن خلوف أفواههم(4) حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك.

< وأما الثالثة : فإن الملائكة تستغفر لهم في كل ليلة.

< وأما الرابعة : فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول لها : اسعدي وتزيني لعبادي، أوشك أن يتسريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي.

< وأما الخامسة : فإنه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعا، فقال رجل من القوم : أهي ليلة القدر يا رسول الله؟ فقال : لا، ألم تر إلى العمال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم<(رواه الإمام أحمد).

ولما كانت المنْحة -عادة- مما يغري الممنوح بحب المانح والتقرب إليه واحترامه ومعاملته بالحسنى، والحرص على المنحة أولا وبالدرجة الأولى، وهذا حال الصيام عامة وشهر رمضان خاصة بوصفه منحة إلهية -كما رأينا- فلزمنا أولا المحافظة على منحة شهر رمضان -وهي منحة ربانية وليست بشرية- وذلك بحسن استعمالها وتدبر أمرها وصرفها فيما يليق بمقامها وفضلها وحرمتها، من لزوم الطاعات والإكثار من القربات(5) وكذا اجتناب المعاصي والموبقات(6)، انسجاما مع مطلب الله تعالى عقب الدعاء، والرد في الإجابة {فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدون}(البقرة : 185).

ولربما من أجل هذا كله ما كان الله عز وجل ليغفل الإشارة إلى أهمية الصوم وحث النفوس عليه، على الرغم من تنكيره لبعض الأعذار المبيحة للإفطار، فقال تعالى: {وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}(البقرة : 183)، ومثله ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : >لو تعلم الأمة ما في رمضان من الخير لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان<(رواه البيهقي في سننه).

وهذا حتى لا يحرم الناس من خيرات هذا الشهر ونفحاته، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : >إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها فلعل أحدكم تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً<(رواه الإمام أحمد في مسنده).

—–

1- مقتطف من نص الخطبة الشهيرة التي افتتح بها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان.

2- قيامه  المقصود به قيام صلاة التراويح.

3- احتسابا : قصد وجه الله تعالى ابتغاء مرضاته.

4- الخلوف : الرائحة التي تطرأ على الفم بسبب الصيام.

5- جميع أنواع الخير والبر كالصدقة وقراءة القرءان وقيام الليل ونحوها.

6- الموبقات : الكبائر من الذنوب (القتل، الزنا، شهادة الزور، عقوق الوالدين، الشرك…).

ذ. إبـــراهـيــم أمـــونـــن

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>