أقبل شهر رمضان كعادته، مهيبا جليلا. فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه بكل حفاوة وتعظيم، فهم يعظمونه شهرا عظمه الله تعالى ، وشهد له بالفضل والبركة. قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة : 184). فهو شهر الله، وشهر القرآن، وشهر العبادة، وشهر الانتصارات. كان الرسول أكثر الناس احتفاءا بشهر الصوم، وأكثر الناس استقبالا له، لقد كان يستعد له حتى من قبل أن يوحى إليه بالرسالة، فكان يخرج فيه إلى غار حراء، جاء في كتاب ” محمد” لمحمد حسين هيكل ص: 130. “… وقد كان من عادة العرب إذ ذاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمنا في كل عام يقضونه بعيدا عن الناس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم يلتمسون عندها الخير والحكمة، وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة: التحنف أو التحنث. وقد وجد محمد فيه خير ما يمكنه من الإمعان فيما شغلت به نفسه من تفكير وتأمل. وكان بأعلى جبل حراء على فرسخين من مكة غار هو خير ما يصلح للانقطاع والتحنث، فكان يذهب إليه طوال شهر رمضان من كل سنة، يقيم به مكتفيا بالقليل من الزاد يحمل إليه ممعنا في التأمل والعبادة، بعيدا عن ضجة الناس وضوضاء الحياة، ملتمسا الحق، والحق وحده”
يقدم علينا رمضان، فتظهر معه عادات وتقاليد فيها ما يحمد وفيها ما يعاب. فأما ما يحمدمنها، فهو إحياء نهاره وقيام ليله بالصلوات الجامعة في أوقاتها،وإقامتها تطوعا، وممارسة الأعمال الخيرية، مع التزام آداب الصيام بالصبر والتعاطف وصلة الأرحام والأحباب والجيران بالبر والرحمة، ومواساة الفقراء والأيتام، فهذه عادات وتقاليد طيبة نتمنى أن تستقر وتدوم بين أفراد المجتمع ا لمسلم. ومن محامد هذه التقاليد أيضا انتشار العلماء والوعاظ بالمساجد يلقون دروسا علمية تذكر الناس بالحلال والحرام في حياتهم وفي صومهم، ولهذا العمل أثره الكبير وفائدته الجليلة، فنرجوأن يحصلوا على أداء واجبهم طوال هذا الشهر، تعليما وإرشادا ووعظا، مع التزامهم الدائم بالحضور، فهم يمثلون جهازا إعلاميا كبيرا ومؤثرا، وما أحونجنا إلى ذلك في مثل هذه الظروف التي نعيشها.
وأما ما يعاب من التقاليد الدخيلة على رمضان، فهو ذلك السيل المتدفق من الترف في المأكل والمشرب. فالصوم كفرض وركن من أركان الاسلام الخمس، معناه الإمساك عن الطعام والشراب، وقمع شهوات النفس، ورغباتها، وصولا إلى تقوية النفس وتطهيرها من الشوائب والأدران، وقد يقبل أن يتناول المسلم في إفطاره أو بعد إفطاره طعاما شهيا، ولكن لايقبل منه أن يجمع أنواعا كثيرة من الطعام ويتفنن في إعدادها وصنعها، ثم يتهالك عليها عند الإفطار، فتمتلئ البطن وتحمل فوق ما تطيق، لما في ذلك كله من الإضرار بالصحة ، في الوقت الذي يجمع الاطباء وقرر العلم ان الترف في الطعام مجلبة للأمراض، وأن الصيام والتخفيف من المواد الغذائية هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الصحة، وقبل الأطباء وعلمهم قال الله تعالى: “و كلوا واشربوا ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين” الاعراف 29. وقال [ "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن، حست ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه" رواه احمد.
ومن سيئات هذا الترف في رمضان أن استهلاك المواد الغذائية يزيد بمقدار الضعف أو أكثر من الضعف من الاستهلاك العادي في الشهور الأخرى، وهذا بطبيعة الحال أمر غريب وعجيب في شهر قوامه الصيام والجوع، وهذا تبذير، والتبذير من عمل الشيطان، والبون شاسع بين الصيام الذي هو الإمساك وبين الانطلاق في المتعة، الذي ليس له مثيل في غير رمضان، فأنواع المطعومات وألذ المشروبات، وأفخر ليالي السهر، وأروع برامح الترفيه كلها من أجل رمضان قي ليله ونهاره، فأين الصوم؟ وأين الكف عن الشهوات؟ وأين الذكروالاستغفا ر؟ وأين القراءة القىآن في زحمة هذا الانطلاق ا لذي يرهق ميزانية الأسر ويحدث تغييرا واضحا في الأسعار والمواصلات ومواعيد العمل وحصص الدروس، إننا محتاجون إلى فهم حقيقة الصوم حتى يظهر أثره في نفوسنا وأعمالنا، وحينئذ يبنى المجتمع الصالح الذي يتجه للخير ويهدف للكمال وتسعد به الأمة والأجيال. فرمضان شهر تهذيب النفس وتصفية الروح وتقويم الجوارح، ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، وتدريب النفس على تحمل المشاق والصبر، ففي الصيام يتجلى هذا التدريب أكثر مما يتجلى في فرض آخر، فكثيرا ما يشعر الصائم بالجوع والعطش وأمامه الطعام ويطفئ ظمأه، ولكنه لايفعل لأنه يراقب الله ويخشاه، ولايخشى أحدا سواه، فليكن صومنا جُنة من نزعاة النفس، وقربة وامتثالا لله تعالى، ولنفرح بوعد الله لنافي الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة ] عن النبي قال : يقول الله عز وجل : >الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك<(رواه البخاري).
ذ. حسني أحمد عاشور