دروس من سيرة المصطفى : الأمــارات الكبرى للنبوة الخـاتمة الأمـارات الـمعنوية (3)


3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

ليست هذه الصفة ميزة خاصة بالنبي الأمي، إذ كل الرسل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكنها صفة تصبح ميزة عندما تحرّفت الشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، أو المبادئ الجديدة التي جاء بها عيسى عليه السلام، فإحْيَاءُ محمد صلى الله عليه وسلم لما تضمنته الشريعة السابقة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر علامة على أن الرسول الخاتم ليس كاذباً فيما يبلغه للناس من عند الله، بل ذلك من أقوى العلامات على صدقه، لأن الرسل جميعا يتلقون الوحي من عند الله تعالى، ولهذا لا تناقض بينهم في العقائد والمبادئ الأساسية من الدين، {شَرَعَ لَكُم من الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والذِي أَوْحَيْنا إلَيْكَ ومَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أن أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تتَفَرَّقُوا فِىه}(الشورى : 11)، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}(الأحقاف : 8).

فهذه الصفة تدل على أن النبي الخاتم يبعثه الله تعالى وقد شمل التحريفُ الشريعةَ السابقة في عدة مجالات، على رأسها مجال العقيدة، وقد حرفها اليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وبأن الجنة هي لهم وحدهم مهما فعلوا، وبعبادتهم العجل وموسى عليه السلام بين أظهرهم، وعبادة النصارى المسيح عليه السلام مع تبرُّئه من هذه العبادة.. إلى غير ذلك من التحريفات التي تجعلهم في صف الكافرين الذي يحتاجون لرسول يصحِّحُ لهم ما وقعوا فيه من الإفك والبهتان {لَمْ يَكُنِ الذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتَابِ والمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَاتِيَهُمُ البَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}(البينة : 1)، وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بِي رَجُلٌ مِن هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يومِنُ بي إلاّ دَخَلَ النار<.

وذكر الإمام أحمد في مسنده بسنده أنه لما نزلت {لَمْ يَكُنِ الذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتَابِ} إلى آخرها، قال جبريل : يارسول الله إن ربك يأمرك أن تُقْرِئَهَا أُبَيّاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبَيّ : >إن جبريل أمرني أن أُقْرِئك هذه السورة< قال أبَيٌّ : وقد ذُكِرتُ ثمَّة يا رسول الله؟؟ قال : >نعم< فبكى أُبَيٌّ.

وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم والترمذي وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب : >إنّ اللَّه أمَرني أن أَقْرَأَ عليك {لَمْ يَكُنِ الذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتَابِ…} قال أبَيٌّ : وسَمَّاني لك؟؟ قال : >نعم< فبَكى(1).

أما سَبَبُ تخصيص أبيّ بالذات فقد روى احمد ومسلم وأبو داود وغيرهم السبب وهو : أنّ أبيّاً سمع عبد الله بن مسعود يقْرأُ آيةً على خلاف قراءة أبُيّ، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاسْتَقَرأَهُما، وقال لكلٍّ منهما >أصَبْت< قال أبيٌّ : فأخذني من الشكِ ما لم يَدْخُلْنِي مثله إلا في الجاهلية، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لعَلَّ الشيطَان دخلَك< ثم دَفع بكفه في صدري، فقال : اللَّهُمَّ احْبِسْ عنْهُ الشّْيْطَان< قال أُبَيٌّ : ففِضْتُ عَرقا، وكأنما أنظر إلى الله فرَقاً -خوفا- وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن جبريل أتاه فقال : >إنّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أن تُقْرِئَ أمَّتَكَ القرآن على حَرْفٍ، فقلتُ : أسأل الله مُعَافَاتَه ومَغْفِرَتَهُ، فقال : على حرْفين، فلم يزَل حتى قال : إنّ اللّه يَأْمُرك أن تقرئ أمتَك القرآن على سَبْعَةِ أحْرُفٍ<(2).

فكانت -كما يقول ابن كثير- قراءة إبلاغٍ وتثبيت وإنذار، لا قراءة تعلّمٍ واستذكار.

والجدير بالذكر في هذا المقام هو أن أبَيّاً رضي الله عنه كان قبل الإسلام حَبْراً من أحبار اليهود، مطلعاً على الكتب القديمة، ولما أسلم كان في كتاب الوحي، شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها(3).

فإذا كانت القراءة عليه للتثبيت والإنذار، فإنما ذلك لم يكن -ربّما- للشك الذي وقع وخَطَر لأبَيّ بسبب اختلاف القراءات فقط، وإنما أيضا لتجاذُبِ الرصيد العلمي والديني الذي كان يملكه مع العلم الجديد والتصور الجديد اللذين جاءت بهما الرسالة الخاتمة، فاختلاف القراءات أوْقَعَ في نفسه الشك في جدِّيَّة هذه الرسالة الخاتمة، وإعجاز كِتابها المتمثل في عدة مجالات، من بينها قراءته على سبعة أحْرُفٍ، ومن هنا كان التثبيت والإنذار في نفس الوقت، إذْ أية جِدِّيَّةٍ وصِدْق في دِينِ يحتكر الجنة لصنف مخصوص {وقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أو نَصَارَى}(البقرة : 110) هذا هو التألِّي على الله عز وجل. وأية جدية وصدق في دين يؤسس للعنصرية المقيتة فيقول أصحابه {وقَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِينَ سَبِيلٌ}(آل عمران : 110).

ذ. المفضل فلواتي

——–

1- تفسير ابن كثير 656/4.

2-  ابن كثير، وموسوعة عظماء حول الرسول 423/1.

3- بن كثير، وموسوعة عظماء حول الرسول، ص 420.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>