دروس من سيرة المصطفى : الأمارات الكبرى للنبوة الخاتمة الأمـارات الـمعنوية (2)


-2 وضعُ الآصار والأغلال وإزالة التكاليف الشاقة المُهينة :

من المميزات الكبرى أيضا للنبوة الخاتمة، والرسالة الخاتمة، ما تضمنته من اليُسر ورفع الحرج، وإزالة التكاليف الشاقة التي ترهق الإنسان وتُهينه كما يُهان المأْسُورُ المغْلُول بالقيود الحديدية، حيث تجعله لا يطيق الحركة، ولا يشعر بنعمة الحرية، ولهذا شبه الله تعالى هذه التكاليف المرهقة بالآصار والأثقال، وبالأغلال والقيود. قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى : >قد كانت شريعة التوراة مشتملة عى أحكام كثيرة شاقة مثل : العقوبة بالقتل على معاصٍ كثيرة، منها: العَمَلُ يوم السبت، ومثل تحريم مأكولات كثيرة طيبة، ومثل تغليط التحريم في أمور هينة،  كالعمل يوم السبت، وأشد ما في شريعة التوراة من الإصْر أنها لم تشرع فيها التوبَةُ من الذنوب، ولا اسْتِتَابَةُ المجرم<(1).

والأغلال >استعارة لما يعانيه اليهود من المذلة بين الأمم الذين نزلوا في ديارهم بعد تخريب بيت المقدس، وزوال ملك يهوذا، فإن الإسلام جاء بتسوية أتباعه في حقوقهم في الجامعة الإسلامية، فلا يبقى فيه -الاسلام- مَيْزٌ بين أصيل ودخيل، وصَمِيم ولَصِيقٌ، كما كان الأمر في الجاهلية، ومُنَاسَبَةٌ استعارة الأغلال للذِّلة أوضح، لأن الأغلال من شِعَار الإذْلال في الأسْر والقَوَد، وهذان الوصفان لهما مزيد اختصاص باليهود، المتحَدَّثِ عنهم في خطاب الله تعالى لموسى، ولا يتحققان في غيرهم ممن آمن  بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود قد كان لَهُمْ شرع، وكان فيه تكاليف شاقة، بخلاف غير اليهود من العرب والفرس وغيرهم.

على أنك إذا تأمَّلت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام، لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصْرٍ عليهم، مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع السماحة الفطرية، وكذلك لا تجدها خالية من رَهَق الجبابرة، وإذلال الرؤساء، وشدة الأقوياء على الضعفاء، وما كان يحدث بينهم من التقاتل والغارات، وأكلهم أموالهم بالباطل، فأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بدين من شأنه أن يُخَلِّصً البشر من تلك الشدائد، كما قال تعالى {ومَا أرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً للْعَالَمِينَ}(الأنبياء : 70)(2).

قال الزحيلي في {ويَضَعُ عَنهم إصْرهُم والأغْلاَلَ التِي كَانَتْ عَلَيْهِم} “أيْ يَرفَع عن بني إسرائيل التكاليف والأحكام الشاقة التي كانت مقررة عليهم، مثل تحريم الغنائم، وتحريم مجالسة الحائض، وقرْضِ مَوْضِع النجاسة، والقصاص من القاتل بلا دِيَةٍ، وقتل النفس علامة للتوبة، فكانوا إذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها وإذا أصاب ثوْبَ أحدهم بَوْلٌ قرَضه، ورُوي : وجِلْد أحَدِهم، فأحل النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم، وأباح مجالسة الحائض ومؤاكلتها، ومضاجعتها -في غير جماع-، ورخَّصَ بغسل البَوْل، وشرع الدّية، وقَيّدَ القصاص في القتل العمد، وجعل التوبة باللسان والقلب مع الله تعالى<(3).

وزاد أبو السعود الأمر توضيحا أكثر، فقال : >أي يخفّف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة، التي هي من قَبِيل ما كُتب عليهم حينئذ من كون التوبة بقتل النفس، ومن كَوْن القصاص في القتل العمد والخطأ من غير شرع الدية، ومن قبيل قَطْع الأعضاء الخاطئة، ومن قبيل قَرْض موضع النجاسة من الجلد والثوب..<(4).

يكتبها :

ذ. المفضل فلواتي

——–

1-  التحرير والتنوير 136/9.   // 2-  نفس المرجع 137/9.

3-  التفسير المنير 127/9.

4-  تفسير أبى السعود 414/2، ببعض التصرف للتوضيح، وجاء في محاسن التأويل للقاسمي >من هذه المشاق : تحريم طبخ الجَدْي بلَبَن أمِّهِ، ومنها أنهم لا يعملون أدنى عمل في أعياد (الفطير) و(الحصاد) و(المظال) وعيد كل سبت، وكذلك سبت المزارع، ففي كل سنة سابعة سبت للأرض، لا يزرع فيها، ولا يقطف الكَرْم، بَل تُترك الأراضي عُطلاً، وغلات الكروم مأكَلاً لفقراء شعبهم ووحوش البرية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>