تتناول هذه الورقة بالبحث جدلية إثبات بداية الشهور القمرية، وخاصة رمضان، بين استمرار التشبث بالرؤية البصرية وقوفا عند ظواهر النصوص، أو اعتماد الحساب الفلكي من منطلق رد جزئيات التشريع إلى الكليات وفهم النصوص الجزئية قي إطار المقاصد الكلية ومراعاة ربط بعض التكاليف الشرعية بعللها مع الاستفادة من تقدم العلوم الكونية.
يعيش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قضايا ومشاكل مزمنة تطفو على السطح أحيانا ثم تختفي حينا أخر دون الخروج منها والتغلب عليها برأي راجح أو قرار نهائي معتمد يطمئن إليه المسلمون ويعملون به، وذلك بالرغم من التقدم الذي حققوه والنضج العقلي الذي عرفوه والتراكم المعرفي الذي بلغوه وتنامي الاستعداد عبر الزمن للتغلب على تلك المشاكل والقضايا بحكم ما تراكم حولها من تراث فكري واجتهاد فقهي.
ولعل من أغرب المشاكل وأشدها تعقيدا في حياتنا الدينية المعاصرة قضية تحديد بدايات الشهور القمرية ونهايتها باعتبار ما يترتب عليها من أحكام شرعية وشعائر دينية، وذلك بسبب الإصرار على التشبث بالموقف السلفي والإحجام عن مواكبة البحث العلمي الشرعي للتطورات العلمية والإنجازات المعرفية التي حققتها العلوم الكونية، وخاصة علم الفلك والاستفادة منها بما يحقق المصالح الدينية والدنيوية للعباد في ممارسة شعائرهم الدينية ويبعد عنهم الاضطراب والفرقة والتشرذم باسم الحفاظ على ظاهر النصوص والتمسك بحرفيتها كما حدث في رمضان سابقا، حيث كان الفرق بين صيام المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية وفطرهما ثلاثة أيام بسبب اعتمادهما على الرؤية. وما يستدعي النظر ويبعث على التأمل في موضوع اعتماد الحساب الفلكي في تحديد بدايات حلول الشهور القمرية أمور عديدة أهمها:
1- ثنائية الفكر الفقهي التراثي في التعامل مع بعض الأحكام الشرعية، وتبعية عدد من فقهاء عصرنا لهم في هذه الثنائية، ويتمثل ذلك في إجماع المسلمين على وجوب اعتماد الحساب الفلكي، والأخذ به في ضبط مواقيت الصلاة التي هي أعظم عبادة دينية في الإسلام والمحددة أساسا بالرؤيا القرآنية، بما في ذلك بداية الصوم وتحديد جهة القبلة.
{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الفجر}(الاسراء)، {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}(البقرة) وفي الحديث >إنما هو سواد الليل وبياض النهار<(البخاري ومسلم). وماشاع بين أهل العلم في القديم من عبارات فقهية مثل الفجر المستطير أو الأحمر المعترض وغيرها من العبارات التي اختلف العلماء في شأنها اختلافا بينا، كما ذكر ذلك ابن رشد في البداية (ج1 ص 196). وهذا يعكس نوعا من الانفصام الذي عرفته العلوم الشرعية ممثلة في الفقهاء ورجال الشريعة والحديث وبين العلماء المسلمين الدين تخصصوا في العلوم الكونية والإنسانية من طب وفلك ورياضيات وفلسفة حيث كان الأولون يتهمون الآخرين بضعف العبادة والاشتغال بما لا يفيد من العلوم.
2- ورود أحاديث نبوية صحيحة ربطت الصوم بالرؤية البصريةمن مثل قوله فيما يرويه ابن عمر] : >صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له<. وفي رواية أخرى: >فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين<.
- وقوله فيما يرويه البخاري ومسلم : إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رايتموه فافطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما.
- وقوله فيما يرويه البخاري: إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا..
بهذه الأحاديث تشبث فقهاء السلف وغالبية علماء الخلف في وجوب اعتماد الرؤية البصرية في إثبات حلول شهر الصيام، أخذا لها على ظاهرها وتمسكا بحرفيتها على مذهب مدرسة الأثر، مع أن مثل هذه الأحاديث النبوية التي تؤسس لتشريعات جزئية ينظر إليها في إطار المقاصد الكلية ومعرفة أهمية قوائس الأحوال، في فهمه الخطاب الشرعي بما يخدم مصالح العباد في المعاش والمعاد، خاصة وهي تتحدث عن وسيلة الاثبات: الرؤيا لا إلى الغاية التي هي العبادة الدينية: الصيام. والوسائل تتغير بتغير الظروف والأحوال كما هو مقرر في الأصول والفقه.
وبقطع النظر عما تؤكده المعاجم اللغوية من أن لفظ الرؤية من الألفاظ المحتملة التي تحتمل أكثر من معنى، فان المناسب الميسر للأمة الاسلامية في الكتابة والحساب زمن النبوة هو تحديد بداية الصوم بالرؤية البصرية حيث كانت الوسيلة المناسبة لمستوى الأمة الثقافي والعلمي، باعتبار أن المسلمين في ذلك العهد لم يكونوا رجال ثقافة وعلم بالكتابة والحساب مما يجعلهم قادرين على فهم الدلالة العلمية لمثل قوله تعالى : {والشمس والقمر بحسبان}(الرحمن : 5).ومعرفة الكواكب والأجرام السماوية ورصدها واعتمادها في تحديد بدايات الشهور القمرية، مما يجعل الرؤية البصرية بالنسبة إلى زمانهم ومستواهم الثقافي العلمي أفضل سبيل للإثبات والتيقن.
إلا أنه مع ذلك فقد وجد من علماء السلف من قال بضرورة اعتماد الحساب لأنه قطعي، والشهادة ظنية، والقطعي يقدم على الظني، قاله ابن السبكي، ونقل مثل هذا عن بعض العلماء الأحناف، وقبل هذا وذاك قال أحد كبار التابعين مطرف بن عبد الله بن الشحير: إن العالم بالحساب يعمل به لنفسه، ومثل ذلك قاله ابن قتيبة من المحدثين، وقال ابن شريح في معنى ” اقدروا له” قدروه بحسب المنازل وهو خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وإن قوله “فا كملوا العدة” خطاب للعامة. واعترض على هذا بعض الفقهاء كما هو في شرح الزرقاني على الموطإ ص : 206.
2- إن الحكم الجزئي المستفاد من البلاغ النبوي المروي عن ابن عمر ] ” إنا أمة لا نكتب ولانحسب، الشهر هكذا وهكذا”. يعني مرةتسعة وعشرين ومرة ثلاثين. وهو بيت القصيد في الموضوع، يندرج في الخطابات الدينية التي ترتبط فيه التكاليف الشرعية بعللها، والعلة كما يقول علماء جمهور الأصوليين تدور مع المعلول وجوداً أو عدما، وهذا يعني أنه متى انتفت علة الأمية الثقافية والعلمية، انتفى المعلول، و هو الرؤية البصرية فقط(1)، مما يقتضي الرجوع إلى الحساب والأخذ به في اتباع الهلال – إلا في الحالات الناذرة- ومجتمعنا ا لاسلامي اليوم أخذ بقسط كبير من الثقافة والعلوم بما فيه علم الفلك – لا التنجيم – وانتفت عنه صفة الأمية، كيف والاسلام جا ء لرفع الأمية والجهل عن الأمة الإسلامية، وأكد عليه في طلب العلوم والمعارف مهما كان مصدرها، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم كما رواه البيهقي من شعب الإيمان. وكانت كلمة الوحي الأولى هي “اقرأ” بمفهومها العلمي لا الأبجدي فقط، ونحن المسلمين أمة “اقرأ”.
وبالرغم من تقدم المعارفالإنسانية والعلوم الكونية وتطورها في العصر الحاضر، ما زال عدد من الفقهاء والمثقفين المسلمين يرفضون الاستفادة من هذه العلوم، حتى تلك التي غزا بها الآخرون الفضاء ونزلوا بها على سطح القمر بحجة التمسك بحرفية الحديث وظاهره ” إنا أمة أمية”؛ وكأن هذا الوصف صفة ثابتة دائمة وسمت بها أمتنا الإسلامية، فلا خلاص منها حتى آخر الدهر، وكأننا مازلنا صفر اليدين فارغي العقول عالة على غيرنا في علوم الكون والحياة. والله تعالى يقول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر: 27 )؛ أي أصحاب العقول العلمية والألباب المعرفية، حيث إن الآية الكريمة تتحدث عن الجبال الجدد البيض والحمر التي اختلفت ألوانها، وعن الغرابيب: الجبال الشديدة السواد مما لا يفقهه ويدرك أسراره إلا علماء الكون المومنون، لأنه كلما كان العلم به أكمل كانت الخشية له أعظم.
أسباب رفض علماء السلف لاعتماد الحساب
إن الذي قلناه عن ضرورة السعي إلى الأخذ بالعلوم والمعارف في حياتنا، والاستعانة بعلوم الفلك في تحديد بدايات الشهور القمرية، وفي غيرها من القضايا والمسائل، لايمنع منه ما نجده في كتب الفقه والحديث القديمة من رفض يبلغ حد الاستنكار والزيغ والتفسيق تحت جملة من التعليلات والتبريرات، أرى من المناسب الوقوف عندها قليلا.
- فالمحدثون القدماء يعتبرون اعتماد الحساب في إثبات الهلال أو نفيه، مما نهت عنه الشريعة لأنه خوض في علم التنجيم القائم على الحدس والتخمين، وحديث ” لانكتب ولانحسب” ناسخ لهذا العلم، والشريعة الواضحة أمرتنا بالرؤية التي يستوي فيها العالم والجاهل. وابن تيمية رحمه الله يسير في هذا الاتجاه الذي ينفي اعتماد الحساب لأنه عرافة وتنجيم، والقول بالأحكام النجومية باطل عقلاومحرم شرعا لحديث رسول الله الذي رواه أبو داوود وابن ماجة “من اقتبس شعبة من النجم فقد اقتبس شعبة من السحر”(الفتاوى ج 25/165) وبعض الفقهاء ساروا على هذا المنهج. فالزرقاني في شرحه على الموطأ ج 2 ص: 206/7 يدكر نقولا كثيرة واختلافات فقهية ينتهي فيها إلى اعتماد الرؤية واستبعاد حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة ويفسر قوله تعالى: {وبالنجم هم يهتدون} (النحل : 16) على الاهتداء في السير في البر والبحر، وابن جزي في >القوانين الفقهية” يقول في ص88: إن غم الهلال أكملت العدة ولم يلتفت إلى قول المنجمين خلافا لقوم<؛ مما يتبين معه أن الفقهاء ينكرون الحساب ويؤكدون على الرؤية البصرية.
والواقع أن الباحث المناضل في الاتجاه الذي يقول بعدم قبول الحساب الفلكي في اثبات الهلال، تستوقفه أمور كثيرة أهمها:
1- إن المسلمين أجمعوا بلا خلاف على قبول اعتماد الحساب الفلكي في تحديد مواقيت الصلوات بدلا عن الرؤية، وكذا تحديد جهة القبلة مما يعني قبول الاستفادة من علمالفلك والحساب في العبادات، ورفضه في اثبات رؤية الهلال التي هي ليست عبادة وإنما هي وسيلة.
2- إن القول بالحساب يقوم على الحدس والتخمين والظن ، يتعلق بالتنجيم والعرافة التي هي عمل العراف و المنجم، وذلك مما نهى عنه الرسول في أكثرمن حديث >من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد<(رواه احمد والحاكم عن ابي هريرة). والتنجيم والتعاطي له زيغ وابتداع لأنه يفضي إلى ادعاء معرفة الغيبة المنهى عنه شرعا (قل لايعلم الغيب إلا الله).
وعدد من الفقهاء والمحدثين الذين تشبثوا بالرؤية البصرية معذورون، لأنه لم يكن قد تبين الفرق الكبير بين التنجيم وعلم الفلك حيث كان العلمان مرتبطين أشد الارتباط مما اختلط معه الأمر.
وهذا ما يجعل موقف السلف الصالح، الذي كان يصر على الرؤيا، مقبولا في زمانهم الذي لم تعرف فيه العلوم الكونية وخاصة علم الفلك.، ما حققه اليوم من تقدممذهل وضبط دقيق وتفوق على سائر العلوم، بحيث أصبحت أحكامه يقينية قطعية يثق بها أهل العلم ويبنون عليه تقديراتهم، علما منهم أنه لايخطئ إلا بمقدار ضئيل لايمكن أن يؤثر في المهام التي يستخدم فيها ولا النتائج التي يتوصل إليها، بحيث لو تهيأ لعلمائنا وفقهائنا معرفة ما وصل إليه هذا العلم، لغيروا موقفهم وأخذوا به؛ وهذا ما بدأت تباشيره تظهر اليوم، حيث السعي الحثيث والعمل الجاد الهادئ من لدن العديد من العلماء والفقهاء المجتهدين المعاصرين للاستعانة بعلوم الفلك والاستفادة من خدماتها في تحديد بدايات الشهور القمرية، أو على الأقل في نفي الاثبات عندما يكون الحساب ينفي ذلك.
نسأل الله السداد والرشاد للأمة الإسلامية، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
عبد الحي عمور من العلماء
———-
1- يقول أبو بكر الجصاص في تعريف العلة: انه المعنى الذي عند حدوثه يحدث الحكم، فيكون وجود الحكم متعلقا بوجودها ومتى لم تكن العلة لم يكن الحكم / الفصول في الأصول: 4/9