خطب منبرية : المرجعية الربانية : بين الاعتصام والتفريط


الحمد لله الذي  أعزنا بالإسلام، وأمرنا بالاعتصام بحبله المتين، كتابه البين، حتى لا يتشتت شملنا بين العالمين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن حبيبنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد : قال تعالى: { واعتصِمُوا بحبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا } فلقد أمرنا سبحانه وتعالى في هذه الآية  بالاعتصام بحبله، وحَبْلُه هو كتابه الذي تضمن شريعته الكاملة الشاملة لكي يسير الإنسان على ضوئها فلا تزيع به الأهواء، ونهانا عن التفرق إذا نحن تحاكمنا إلى غير كتابه الهادي للصراط المستقيم.

وقد لخص الرسول صلى الله عليه وسلم الدستور الواقي للمسلمين من كل الانحرافات والانزلاقات في شيئين: كتاب الله وسنة رسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: >تركْت فِيكُمْ أَمْرَين لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُم بِهِمَا: كِتَابَ الله وسُنّة رَسُولِ الله< رواه الإمام مالك عن أبر هريرة.

فلماذا كان هذا الاعتصام بهذين الأمرين عاصما من الضلال؟ !

< لأن الله عز وجل منزه عن الهوى والنقص، ورسوله معصوم من الخطإ، فالاعتصام بهما اعتصام بالمرجعية الربانية الصادقة الكاملة.

< لأن الاعتصام بالمرجعية الربانية الكاملة يرفع من قدر الإنسان.

< لأن الاعتصام بالمرجعية الربانية يشعر بعزة العبودية وعزة الانتماء لله تعالى مباشرة، فأنت تكون آنذاك عبدا لله مباشرة وهل هناك أشرف من أن تكون عبدا لله، فمن يستحق أن يعبد غيره؟

< الاعتصام بالمرجعية الربانية يعطي التميز التام عقيدة وشريعة وخلقا، فلا خضوع لأصنام حجرية أو أزلام بشرية، ولا خلق يحط من قيمة الإنسان، ولا سفاهة في الحوار أو الأدب أو حتى النظرات {وقولوا للناس حسنا}، {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض و قلن قولا معروفا}، {قل للمومنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} {وقل للمومنات يغضضن نمن أبصارهن ويحفظن فروجهن} بل في أدب الاستئذان نجد أن الله تعالى يقمع دوافع الغضب من الجذور {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم} لا ترجع وأنت محمل بالوساوس الشيطانية تجاه أخيك، بل ارجع وأنت تستلطف الله تعالى له، وأنت قلق على حالته التي ربما تكون غير طبيعية.

< الاعتصام بالمرجعية الربانية يعطي التواضع والشكر لله تعالى، فهذا سليمان \ عندما أصبح عرش بلقيس بين يديه في أقل من لمح البصر، قال { هذا من فضل ربي يبلوني اشكر أم أكفر} بينما أصحاب مرجعية الأهواء لا يعرفون الله تعالى، ولا يعرفون التواضع، فهذا نمرود ابراهيم \ خيلت له نفسه أنه يملك الحياة والممات، فقال: {أنا أحيي وأميت} فمات بسبب بعوضة أعطته درسا في الذل والهوان على الله تعالى. وهذا فرعون موسى \ يقول في تبجح كافر،وغرور ساخر {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} فكان الانتصار  للقوة الربانية، القوة التي اعتمد عليها موسى \ عندما قال : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يومنوا حتى يروا العذاب الأليم} قال الله عز وجل لموسى \ { قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} كانت الإجابة من الله تعالى لموسى بشرطين: الاستقامة وعدم اتباع سبيل الجاهلين الذي لا يعلمون، فكانت النتيجة أن أغرقه الله تعالى وأبقاه آية لكل الناس في كل العصور. {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلقك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون}.

ألسنا نرى في عصرنا أحفاد الفراعنة والنماردة والأكاسرة والقياصرة يريدون أن يدخلوا العالم كله في أنفاق الظلم والجهل والاستعمار المهين من جديد كأن الإنسان يبدأ من جديد تاريخ التسلط والطغيان الذي عرفه الإنسان القديم.

< الاعتصام بالمرجعية الربانية يعطي الإنسان قوة التحدي لكل جبروت كيفما كان، فهذا ابراهيم\ تحدى غرور النمرود بقوة الله عز وجل وصنعه، فقال له: {إن الله ياتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب} فكانت النتيجة أن انكشف غرور النمرود، وتهاوت سخافات فكره وعقيدته المتهالكة. { فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}.

وسوف يكشف أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وورثة الأنبياء جميعا عليهم السلام زيف المقولات البشرية، والعقائد البشرية، والمرجعيات البشرية عندما يسقط قناع الانبهار بالقوة المادية، وتظهر للمومنين عيانا بيانا القوة الحقيقية، قوة الله مالك الملك وقاهر الظالمين { ولا تحسبن الله غافلا ع ما يعمل الظالمون} .

وهؤلاء سحرة فرعون عندما آمنوا أصبحوا لا يرون إلا قوة الله تعالى وبطشه فصغر في أعينهم بطش كل جبار عنيد، وقالوا لفرعون المهدد لهم: {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى إنه من يات  ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مومنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} هؤلاء هم الرجال، أما أشباه الرجال فهم وراء التراب يلهثون، وفي التراب يلعقون، بعدما مسخهم الله تعالى وردهم في أسفل السافلين. اللهم اجعلنا من الرجال المومنين الصادقين الذي يعتزون بالإيمان والصدق والإخلاص يوم ينكشف المستور ويقف المتهالكون أمامك مجردين من قوة الجاه والمال والنفوذ اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض، وأعزنا بك فوق الأرض  وتحت الأرض، ولا تفضحنا يوم العرض.

üüüüü

الحمد لله    وبعد :

تلك صورة الاعتصام بالمرجعية الربانية، ونجد في المقابل صورة أخرى، صورة التفريط في هذه المرجعية والاعتصام بالمرجعية البشرية التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلنا على مكمن الخطر فيها بالضبط فقال صلى الله عليه وسلم: >إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء: فقيل: وما هن يا رسول الله؟؟ قال: إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات، و المعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقب عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا، أو مسخا< الترمذي عن علي.

من أين يأتينا هذا القلب للموازين؟

يأتينا من هذا المصدر، قال صلى الله عليه وسلم : >لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لا تبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟؟ قال: فمن؟؟ وفي رواية قيل: يا رسول الله كفارس والروم؟. قال: ومن الناس إلا أولئك< رواه الشيخان.

عندما كانت مقاليد الأمور في يد الخلفاء الراشدين وأمثالهم كانوا يسهرون تهجدا وتفقدا لأحوال الرعية، وعندما وصل الحكم إلى بعض أهواء السفهاء في عهد بني أمية، كان بعضهم يجلس حبابه وسلامة بين يديه وعندما ينتشي بالخمر والطرب يقول: أريد أ ن أطير، فطيره الله إلى جهنم وطير دولته، وعندما انتشرت مجالس اللهو في أواخر العباسيين أهلكهم الله تعالى بالتتريين، وعندما انتشرت الموشحات والقينات والجواري ومجالس الخمر والطرب في الأندلس سلط الله عليهم النصارى فأخرجوهم مما يسمى بالفردوس المفقود. {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم}. صدق رسول الله، دخلوا جحور الفساد فدخلناها، وجحور الإلحاد فدخلناها، وجحور التحريف فدخلناها، وحجور التفسيق والتمييع فدخلناها.

ما معنى أن يجتمع جميع أصحاب الرقص من كل ملة ومذهب تحت اسم مهرجان (موازين) في المغرب، أليس هذا استهزاء بموازين الله التيوضعها للأنام {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}. وما معنى جمع الموسيقيين من كل ملة ومذهب تحت اسم (الموسيقى الروحية) هل لليهود والنصارى روح؟ هل للكفار روح؟ هل للذين يعرضون الإسلام بصورة القفز والضرب على الصدور روح، أليس هذا هو المسخ للدين، مسخنا الدين فمسخنا الله تعالى، نسأل الله اللطف بنا.

فهل تعجبون إذا رأيتم أن وزننا الدولي لا يساوي شيئا، لأننا كنا نثقل بميزان الله تعالى: فعندما تخلينا عنه خفت موازيننا {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}. اللهم ثقل موازيننا بالحسنات يوم تخف موازين المجرمين بالسيآت.

أبو بدر

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>