خصائص الحركة العلمية الإسلامية


من خصائص الحركة العلمية التي انبثقت عن تعاليم الإسلام وقامت على أكتاف علماء المسلمين خمس خصائص نشير إليها على سبيل الاختيار والاختصار :

العالمية والإنسانية

فالعلم في الإسلام حق مشاع، وثروة مشتركة لجميع الأمم والشعوب، والعناصر والأجناس، والأسر والبيوتات، والبلاد والأوطان، ليس فيه احتكار مثل احتكار (بني لاوى) من اليهود أو (البراهمة) من الهنود ولا يتميز فيه شعب عن شعب، ولا نسل عن نسل، وليس الاعتماد فيه على العرق والدم، بل الاعتماد فيه على الحرص والشوق، وحسن التلقي، وزيادة التقدير، والتفوق في الجهاد والاجتهاد، وقد روى الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال : >لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس<.

وكفى شهادة تاريخية لذلك، ماقاله نابغة العربعبد الرحمن بن خلدون (808هـ) في مقدمته  المشهورة : “من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، سواء في العلوم الشرعية أو العلوم العقلية، إلا في القليل النادر، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي<.

الشعبية

لقد قامت هذه الحركة على مجهودات شعبية وعلى تقدير المسلمين للعلم والشعور بالحاجة إليه، وما ورد في الكتاب والسنة من فضله، وما وعد من الأجر والثواب عليه والذم للجهل، والنعي عليه وتنافس فيه المتنافسون من المسلمين في كل عصر وجيل، وقام أكثر المدارس، وحلقات التعليم في العالم الإسلامي الواسع على تقدير المسلمين وتمويلهم، عدا مدارس معدودة (كالنظامية في بغداد، ونيسابور) وما احتضنته الحكومات الإسلامية في عواصمها ومدنها الرئيسية من مدارس وجامعات.

وقد انتشر  العلم انتشاراً واسعاً بفضل العلماء المتطوعين والأساتذة الزاهدين المتقشفين الذين زهدوا في مناصب الحكومة ووظائفها، وتقدير الأغنياء والأمراء. وقنعوا بالكفاف وما يقيم الصلب ويسد الرمق، وقد روى التاريخ الأمين حكايات من هذا القبيل، ليس من السهل تصديقها لو لا الرواة الثقات والاستفاضة والتواتر، والعلم بقوة الإيمان والاحتساب، وروح التطوع والإيثار، المتغلغلة في أحشاء العلماء الراسخين.

ويكفي لذلك مثالاً ما وقع بين إمام دار الهجرة مالك بن أنس والخليفة العباسي هارون الرشيد -وهو خليفة المسلمين، وأكبر حاكم في عصره- فقد طلبه الرشيد ليقرء عليه الموطأ، فقال مالك : “إن العلم يُوتى ولا يأتى” وقام الرشيد يمشي مع مالك إلى منزله يسمع منه الموطأ، فأجلسه معه على المنصة، وأراد أن يقرأ على مالك، فقال ليخرج الناس عني حتى أقرأه أنا عليه، فقال : “إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم ينفع الله به الخاصة”، وقال مالك لهارون : “يا أمير المؤمنين أدركت أهل العلم ببلدنا وإنهم ليحبون التواضع، فنزل هارون عن المنصة وجلس بين يديه وسمعه”.

وقد كانت الحركة العلمية في المسلمين حركة شعبية عمت جميع الطبقات والمستويات، وأصبحت الدراسة هواية للجميع يتظرف بها حتى أهل الحرف والمهن، يقول A.G HAMMERTON في كتابه “التاريخ العام للعالم” (UNIVERSAL HISTORY OF THE WORLD) : “لقد أصبح كل مسلم -من الخليفة إلى الصناع- ولوعاً نهماً بالعلم والسياحة وكان ذلك أجل خدمة قام بها الإسلام نحو الحضارة العالمية، وقد تقاطر رواد العلم من كل صقع على مركز ثقافي كبغداد، وكذلك كان الشأن مع مراكز أخرى للعلم والأدب، وكان ذلك يشبه تهافت فضلاء الغرب على الجامعات ولكن الأول كان أكثر إثارة للحيرة والإعجاب.

غصت المساجد التي كانت جامعات إسلامية بحشود من طلبة العلم الذين كانوا يقصدون هذه المساجد لتلقي العلوم الدينية، والفلسفة والطب والرياضيات، من العلماء الكبار، كا ن هؤلاء الأساتذة ينتمون إلى الأقطار التي تتكلم العربية، وكانوا يلقون دروسهم محتسبين متطوعين لا تهمهم الشهادات ولا تستهويهم الرواتب والأجور، ليس عليهم إشراف من أحد ولا رئاسة ومراقبة، فإذا كانوا بارعين متفوقين في موادهم الدراسية انهالت عليهم جموع من التلاميذ، وكانوا يقدرون ويعظمون بمقياس براعتهم واختصاصهم في موضوعاتهم وينالون ما يفوتهم متطوعين متقللين.

وقد كان الإيمان والاحتساب وما رُوِيَ واستفاض في فضل التعليم من الثواب الجزيل والقرب عند الله، والتطوع في سبيله وإيثار حياة الزهد والتقشف لأجله وإيثاره على حياة الرخاء والثراء والرواتب الضخمة التي يتقاضاها المعلمون المحترفون والمرتزقة من الماهرين في الفنون من الحكومات، هو الرائد الحافز لهؤلاء العلماء المحتسبين، حتى رويت عنهم حكايات يصعب تصديقها لولا رواية الثقات والتواتر وما عرف وتحقق من معرفة نفسية هؤلاء العلماء الأفذاذ ورئاستهم.

ونكتفي في ذلك بحكاية لعالم عاش في أواسط القرن الثاث عشر الهجري، أوائل القرن التاسع عشر المسيحي، وهو الشيخ عبد الرحيم الرامفوري : كان الشيخ عبد الرحيم (ت 1234هـ) يدرس في رامفور، وعرض عليه والي منطقة روهيل كهند الإنجليزي المستر هاكنس منصب التدريس في كلية بريلي، براتب شهري يبلغ مائتين وخمسين روبية (تقدر قيمته الآن بأكثر من ألفي روبية) ووعده بأن راتبه سيزاد فيه ويرفع مستواه، فاعتذر قائلا بأن إمارته تدفع إليه عشر روبيات وستوقف هذه المنحة، فقال له هاكنس : إنه عرض عليه أضعاف هذا القدر وما عشر روبيات أما مائتين وخمسين روبية، فقال إن في بيتي شجرة سدر حلوة وهي محببة إلى كثيراً، فكيف السبيل إليها في بريلي، ولم يتطرق ذهن هذا الإنكليزي إلى حقيقة الأمر الذي كان يدور بخلد الشيخ فقال له : إني سأرتب لإيصال ثمرة هذه الشجرة إليك في بريلي، فقال : إن لي تلاميذ في رامفور، فكيف أتركهم، وسأحرم فرصة خدمتهم، وحاول الإنكليز إٍقناعه فقال : إني سأقدم إليهم المنح الدراسية وسيواصلون دراستهم في بريلي، ولم يبق في جعبة الشيخ إلا سهمه الأخير، فأطلقه، وقال : صحيح ما تقول، ولكن ما يكون جوابي يوم القيامة على الارتزاق بالتدريس؟!!

الحركية

وما امتازت به الحركة العلمية في تاريخ الإسلام وفي عالم الإسلام، الحركية التي تجلت في تحمل المشقات وقطع المسافات للحصول على العلم والتوسع والاختصاص في الدراسة وفي سبيل رواية الحديث الصحيح والإسناد العالي، والتحقيق العلمي، والفحص اللغوي، ثم في سبيل تبليغ الأحكام الشرعية ونشر العلم الديني في البلدان المختلفة، والمسافات البعيدة، وكتب التاريخ والتراجم مشحونة بالأمثلة الرائعة والنماذج المحيرة، خصوصا ما ألف في سير المحدثين، وفي تاريخ تدوين الحديث وجمعه وحفظه، ويكفي في ذلك ما ذكره العلامة ابن خلدون (م 808هـ) من فوائد الرحلة في طلب العلم في مقدمته الشهيرة، يقول رحمه الله : “إن الر حلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل، تارة علما وتعليما وإلقاء، وتارة محاكاة وتلقيا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها، والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين، فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها مناحي تعليم، وطرق توصل وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في المكان وتصحح معارفه وتميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم، هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية، فالرحلة لابد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الفتوة والعمل بالعزيمة

وقد امتاز علماء المسلمين بعلو الهمة، والشهامة والفتوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلمة الحق عند السلطان الجائر، والصمود في وجه الانحرافات والمؤامرات المحبوكة في دائرة الحكومات أو المجتمعات الإسلامية والكفاح والنضال، وقيادة حركة الجهاد، وتحرير البلاد، ومطاردة ا لقوى الأجنبية، والحكومات المعادية للإسلام إذا احتيج إلى ذلك، وإن الدارس لتاريخ الجهاد والحركات الإصلاحية التجديدية من العصر الإسلامي الأول إلى عصرنا هذا لا يمر بصفحة من صفحاتها، وفصل من فصول تاريخها الطويل الذي يكاد يكون متصلا إلا ويرى على رأسها، وفي مركز القيادة منها عالما من علماء الدين، أو مربيا من الشيوخ الربانيين هو منبع هذه الفكرة ومصدر هذه الحركة، منها تبتدئ وإليها تنتهي.

إنها لظاهرة مشتركة بين الأقطار الإسلامية والعربية التي تحررت من نير الاحتلال الأجنبي الذي يسمى بالاستعمار الأوربي الذي سيطر على العالم الإسلامي من الرباط ومراكش في الشمال المغربي إلى إندونيسيا، وماليزيا في الجنوب الشرقي وحتى الجزائر بلد المليون شهيد، وشبه القارة الهندية وغيرهما كلها تشترك في هذا الجانب، فقد قاد حركة التحرير دائما علماء الدين الراسخون في العلم المعترف بمكانتهم العلمية الدينية حتى وإن سرق الشيوعيون والملاحدة بعض ثمار جهادهم!!

التركيز على العلم النافع

التركيز على العلم النافع، الحامل للهداية والكافل للنجاة، والمفيد في الآخرة وهو العلم الذي لا سعادة للإنسان ولا نجاة له بغيره، ويعرف به خالقه وفاطر هذا الكون، ومدبر هذا العالم، وصفاته العالية، والصلة التي بينه وبين عبده وما يرضيه تبارك وتعالى وما يسخطه، وما يشقي الإنسان في الدار الآخرة وما يسعده، يقول الله تعالى : {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} ويقول : {قل هل أننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}.

وقد جاء في الحديث : “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها<.

ونختم هذا البحث بقصة خفيفة مسلية تصور الفرق بين العلم النافع الذي تتحقق به السلامة وتحصل به النجاة، والعلوم التي لا تتوقف على معرفتها السلامة والنجاة -على ما فيها من منافع ومصالح- وقديماً استعان العلماء والأدباء بالقصص على ما فيها من حكمة وموعظة- تخفف شيئاً من ثقل هذا البحث العلمي، وتنزيل السآمة : “يحكى أن فريقاً من تلاميذ المدارس ركبوا سفينة للنزهة في البحر، وكان في النفس نشاط وفي الوقت سعة، وكان الملاح المجدف الأمي خير موضوع للدعابة والتنادر، وخير وسيلة للتلهي وترويح النفس، فخاطبه تلميذ ذكي جريء، وقال : يا عم ماذا درست من العلوم قال : ولا شيء يا عزيزي! قال : أما درست العلوم الطبيعية يا عمي؟ قال : كلا ولا سمعت بها، وتكلم أحد زملائه وقال : ولكنك لا بد درست علم الأقليدس والجبر والمقابلة! قال : وهذا أغرب، وتصدقون إني أول مرة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغريبة، وتكلم الثالث “شاطر” فقال : ولكني متأكد بأنك درست الجغرافية والتاريخ؟ فقال : وهل هما اسمان لبلدين أو علمان لشخصين؟ وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة وعلا صوتهم بالقهقهة، وقالوا : ما سنك ياعم؟ قال : أنا في الأربعين من سني! قالوا : لقد ضيعت نصف عمرك يا عمنا. وسكت الملاح الأمي على غصص ومضض، وبقيينتظر دوره، والزمان دوار.

وهاج البحر وماج وارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة تضطرب والأمواج فاغرة أفواهها لتبتلعها، واضطرب الشباب والسفينة -وكانت أول تجربتهم في البحر- وأشرفت السفينة على الغرق، وجاء دور الملاح الأمي، فقال في هدوء، ووقار : ما هي العلوم التي درستموها يا شباب؟ وبدأ الشباب يعدون قائمة طويلة للعلوم والآداب التي درسوها في المدرسة، وسعوا فيها في الجامعة من غير أن يفطنوا لغرض الملاح الجاهل الحكيم، ولما انتهوا من عد العلوم المرعبة أسماؤها، قال في وقار تمزجه نشوة الانتصار : لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة فهل درستم علم السباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت السفينة -لا قدر الله- كيف تسبحون وتصلون إلى الشاطئ بسلام؟ قالوا : لا والله يا عم، إنه العلم الوحيد الذي أعوزتنا دراسته والإلمام به، هنالك ضحك الملاح وقال : إذا كنت ضيعت نصف عمري فقد أتلفتم عمركم كله، لأن هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنما كان ينجدكم العلم الوحيد علم السباحة الذي تجهلونه!!.

العلامة السيد أبو الحسن علي

الحسني الندوي رحمه الله

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>